قطاعي الصحة والتعليم في موريتانيا.. تبديد لبعض النفقات وخروقات في الاكتتاب والترقيات

لم يخطر على بال -الثلاثيني-الممرض؛ محمد الأمين أحمد سالم وهو يقضي يومه الخامس والثلاثين، تحت أشعة الشمس الحارقة، صحبة رفاقه من (عقدويي كوفيد) الذين قرّروا الدخول في اعتصام مفتوح؛ أمام الوزارة الأولى بعد ما قررت وزارة الصحة الموريتانية، التخلّي عنهم بشكل مفاجئ والاستغناء عن خدماتهم …لم يخطر على باله أن يجد نفسه في ذات اليوم طريح فراش المرض، في مستشفى القلب بنواكشوط مصابًا "بجلطة دماغية" وفق تقييم الأطباء لحالته الصحية، وذلك بفعل ما يصفه زملاؤه "المعتصمون" "بالإكراهات البدنية والنفسية" التي تعرضوا لها خلال اعتصامهم، والتي ليس أقلّها نزع "الخيام" التي يستظلون بها وتركهم على قارعة الطريق وتحت أشعة الشمس...
وتقول المجموعة البالغ عددها 124 عنصرا، بينهم ممرضون وأطباء عامون، وأخصائيون بيولوجيون وصيادلة؛ إنها قررت منذ 30 من مارس 2023 الاعتصام أمام الوزارة الأولى، للمطالبة بالترسيم بعد الكثير من الوعود التي تعهد بها مسئولوا وزارة الصحة والقطاعات المعنية بدمجهم في الوظيفة العمومية.
وفي حديثها لفريق إعداد التحقيق تقول الناطقة باسم المجموعة، منى اشريف "تم اكتتابنا بصفتنا متعاقدين مع وزارة الصحة منذ بداية شهر أغسطس سنة 2020 ليتم تحويلنا بعد ذلك -على عجالة- إلى المسشفيات بسبب النقص الكبير والحاد في الكادر الطبي؛ جراء جائحة كورونا حيث واكبنا كل موجات الجائحة بصدور مفتوحة، دون أبسط مقومات ووسائل الوقاية، ما جعلنا في قائمة أوائل المصابين بهذا الوباء، كما راكمنا كما هائلا من المعارف والخبرات من خلال عملنا الميداني والتكوينات التي شاركنا فيها. "
وتضيف بنت اشريف: لقد وقعت معنا وزارة الصحة سابقا عقود خدمة مؤقتة خمس مرات لمدة سنتين وخمسة أشهر، ثم أبلغتنا مع انتهاء المدة بتوقيف العمل معنا وعدم تجديد العقود، ووجدنا أنفسنا في الشارع منذ ديسمبر 2022 واليوم قررنا الدخول في هذا الاعتصام، ولدينا مطلب واحد هو دمجنا في الوظيفة العمومية، عبر اكتتاب داخلي خاص بنا، أو منحنا عقود عمل دائمة، خصوصا أن من بيننا من تجاوزوا السن القانوني للإكتتاب.
ويبقى القوس مفتوحا في انتظار اصدار الوزارة المعنية لقرار جديد؛ بشأن وضعية عقدويي كوفيد ينهي كابوس التشريد في الشارع.
وكانت الدولة قد أنشأت أثناء فترة جائحة كوفيد19 "الصندوق الوطني للتضامن الاجتماعي ومكافحة كورونا" ساهم فيه رجال أعمال ومواطنون وشركاء ماليون دوليون، وحسب تقرير رسمي صادر سنة 2022 عن اللجنة المشرفة على تسيير الصندوق فإن أيراداته بلغت 6.22 مليار أوقية موريتانية أي مايعادل حوالي 17647058 دولار أمريكي،وفي ظل هذه الإيرادات الضخمة مازالت قطاعات واسعة من عمال الصحة تطالب بتسوية وضعيتها ومن بينها عقدويوا كوفيد19.
"عقود غريبة وخارجة على القانون الموريتاني"..
هكذا كان رد الخبير القانوني الدكتور أحمد جدو أعلية، عندما سأل ناه عن الرأي القانوني في قضية العقود التي يكتوي بنيرانها -حاليا- عقدويو كوفيد، وعدد كبير من عمال قطاعي الصحة والتعليم في البلاد، وحتى في القطاعات الحكومية الأخرى.
حيث يرى ولد أعلية وهو أستاذ وباحث قانوني معتمد لدى عدة مراكز بحثية؛ أن نهج العقود الذي انتهجته الدولة مؤخرا، مجانف للقانون ولا وجود لأساس قانوني له.
ويضيف ولد اعلية في حديثه لنا، أن هذه العقود التي تبرم الدولة ومؤسساتها العمومية الإدارية مع بعض العمال من غير الموظفين العموميين، ويسمونها ب: "عقود تقديم خدمات" و هي عقود خاضعة لقانون الصفقات العمومية، و مع ذلك يكون مضمونها عقد شغل خاضع لمقتضيات قانون الشغل، و يدخلون في صياغتها على أنها خاضعة لقانون الوظيفة العمومية ،"وهي عقود غريبة و لا وجود لها في القانون الموريتاني"
وهذا يعني أنها لا تخضع لقانون الوظيفة العامة، حيث يحدد القانون الموريتاني المنظم لولوج الوظيفة العامة من خلال المرسوم رقم 022-98 الصادر بتاريخ 19 إبريل 1998 النظام المشترك للمسابقات الإدارية والامتحانات المهنية في موريتانيا، وتنص المادة الأولى من المرسوم على أن المنافسة الإدارية هي إجراء القانون العام للتوظيف في الخدمة العامة.
شكاوى من خروقات شابت اكتتابات قطاع الصحة
في الأول من نوفمبر عام 2021، أعلنت وزارة الوظيفة العمومية والعمل وعصرنة الإدارة ووزارة الصحة، واللجنة الوطنية للمسابقات؛ عن تنظيم مسابقة خارجية وداخلية لاكتتاب 480 عنصرا لصالح وزارة الصحة، ابتداءً من يوم السبت الموافق 17 /12/ 2022 في مباني المدرسة العليا لعلوم الصحة بنواكشوط.
ووزعت اللجنة مقاعد الاكتتاب المطلوبة إلى تخصصات طبية من بينها 30 طبيبا أخصائيا و49 طبيباعاما و200 ممرض، والبقية مقسمة ما بين تخصصات الصيدلة والهندسة البيوطبية والبيولوجيا وغيرها.
إلّا أن هذا الاكتتاب ورغم مرور أشهر عديدة على إجرائه، ما تزال الأصوات مرتفعة بشأنه، بفعل ما شابه من خروقات وفق مشاركين فيه؛ وصلت حدّ اتهامات باكتتاب أسماء لم تجرِ الامتحان أصلًا وتجاوز آخرين كانوا على اللّائحة التكميلة للناجحين؛ بحسب بعض المشاركين وهو ما يعتبر خرقًا للقانون المنظم للاكتتاب في وزارة الصحة.
وتروي الدكتورة توتو حرمة ببانا -بكثير من الحسرة لفريق إعداد التحقيق قصة مشاركتها في الاكتتاب الأخير وتأهلها ضمن خمسة من زملائها في اللائحة التكميلة الخاصة بفئة "الأطباء العامون" وبعد أن تلقوا وعودا أكثر من مرة من مسئولي الوزارة بإلحاقهم باللائحة النهائية للمكتتبين نظرا لحاجة الوزارة –الماسة- إليهم ءتفاجأوا من إلحاق 25 شخصا من فئة "الأخصائيين" لم يتأهلوا أصلًا للنجاح، بل إنّ من بينهم ثلاثة لم يجروا حتى الامتحان الاكتتابي وفق حديثها.
وتضيف بنت ببانا: "أن الوزارة الأولى أقرت إلحاق لائحة من الأطباء الأخصائيين بقوائم المكتتبين استحقاقا في الاكتتاب الأخير لوزارة الصحة، فيما رفضت اللائحة التكميلية الاستحقاقية المؤلفة من 54 مؤهلا للنجاح في المسابقة في مختلف التخصصات الطبية.
وقالت بنت ببانا : إن اللائحة المقبولة والمؤلفة من 25 أخصائيا شابت اختيارها خروقات قانونية، حيث يوجد من ضمنها 3 أخصائيين فقط، كانوا في اللائحة التكميلية المؤهلة للنجاح في المسابقة، فيما يوجد من بين المكتتبين "من لم يجر الامتحان الكتابي للمسابقة أصلا".
وتشير لائحة حصل عليها "التحقيق" إلى وجاهة ما ذهبت إليه بنت ببانا في حديثها؛ حيث تضم اللائحة 30 شخصا بينهم ثلاثة فقط مكتوب أمام أسمائهم "ناجح مؤقت" والبقية "غير مؤهلة للنجاح" واثنين تغيبوا عن الامتحان، لكنّ المفاجئة غير السارة بالنسبة لبنت ببانا وزملائها؛ كانت إقرار هذه اللائحة بأكملها،من طرف الوزارة الأولى، وإحلالها محل اللائحة التكميلية للأطباء العامين المكونة من خمسة أشخاص؛ والتي كان من المفترض أن يضاف إليهم "الثلاثة المؤهلون للنجاح مؤقتا" من اللائحة المذكورة، ويلحقوا بزملائهم الناجين مباشرةً بدل إقرار لائحة كاملة من 30 شخصا، ليس فيها مؤهل للنجاح مؤقتا غير ثلاثة.!
ويشكل هذا الإجراء خرقا واضحا للقوانين المنظمة لطرق الاكتتاب في الوظيفة العمومية؛ حيث تنص المادة 51 من قانون الاكتتاب في موريتانيا على أن "المسابقة هي الطريقة العادية لاكتتاب الموظفين، ويعتبر كل اكتتاب لا يراعي هذه القاعدة لاغيا، وعديم المفعول ويمكن سحبه في أي وقت"، حيث يرى الخبير القانوني الدكتور احمد جدو اعلية أن هذه المادة كانت صريحة، واعتبرت أي اكتتاب مخالف لها لاغيا.
كما تنص المادة 55 من القانون ذاته على أن لجنة المسابقة تعد قائمة الترتيب حسب التفوق بأسماء المترشحين الذين تعتبرهم مؤهلين، كما تعد قائمة "تكميلية" عند الاقتضاء، ترتب حسب التفوق بأسماء المترشحين المعتبرين لشغل وظائف تصبح شاغرة في الفترة ما بين مسابقتين.
وباعتماد اللائحة المذكورة تكون الوزارة قد خالفت صريح القانون المنظم للاكتتاب، الذي ينص على أن أي توظيف يتم بخلاف ذلك يعتبر باطلاً جملة وتفصيلا، وتستثني هذه المادة الحالات المنصوص عليها في المادتين 5 و51 من القانون رقم 93.09 المؤرخ 18/01/1993 بشأن الحالة العامة لموظفي الخدمة المدنية والوكلاء التعاقديين للدولة.
رابط المواد المنظمة: هنا
وورد العديد من الشكاوى بخروقات شابت الاكتتابات تتطابق مع ما جاء في تقرير محكمة الحسابات الصادر بتاريخ 22 مارس 2022 والذي تحدث عن اكتتاب تم خارج المسطرة القانونية لعدد من العمال لمركز الاتصال 1155 (وهو مركز أنشأته وزارة الصحة لغرض استقبال اتصالات المبلغين عن حالات الإصابة بفيروس كورونا في موريتانيا) وقد وصفت المحكمة آنذاك الاكتتاب بأنه غير قانوني ويشكل خطأ تسيير حسب وصفها.
نقص حاد في الكوادر الطبية والتعليمية..في مقابل آلاف الأساتذة والأطباء العاطلين
خصصت الحكومة الموريتانية بحسب ميزانية سنة 2022 والتي تحصل التحقيق" على نسخة منها أكثر من 50 مليار أوقية وهو ما يناهز 14 مليون دولار أمريكي، تم منها إنفاق 93 مليون أوقية، (مليون و578 ألف دولار) لجلب متعاقدين أجانب وممرضين، في ظل بطالة متفشية في صفوف المئات من الأطباء الموريتانيين، حيث يوجد أزيد من 1300 طبيب وأخصائي وممرض يطالبون الحكومة الموريتانية باكتتابهم في الوظيفة العمومية، لتغطية النقص الحاد في الكادر الصحي الذي يعاني منه القطاع، وما يزال العديد منهم ينظم وقفات احتجاجية مطالبة بالاكتتاب إلى اليوم.
وفي نفس السياق تتعالى أصوات المطالبين بالتوظيف في قطاع التعليم العالي، حيث يشكوا مئات الأساتذة المتعاونين مع مؤسسات التعليم العالي والدكاترة الخريجون من توقف عجلة الاكتتاب في بعض مؤسسات التعليم العالي منذ أكثر من عقد من الزمن، إذ لم تشهد مؤسسة المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية أي اكتتاب منذ مايربو على 15 عاما، وكذا جامعة العلوم الإسلامية بالعيون التي كان آخر عهدها بالاكتتاب فترة تأسيسها.
وهو ما حدا بالدكاترة والأساتذة الجامعيين من ذوي التخصصات الشرعية والأدبية؛ إلى تأسيس تجمعات تطالب بحقهم في الاكتتاب لتغطية النقص المتزايد في الكادرالتعليمي جراء توسع هذه المؤسسات وازدياد نسب الملتحقين بها في السنوات الأخيرة.
ويرى عضو مجلس النواب الموريتاني النائب البرلماني أحمدو ولد امبالة أن قطاعي الصحة والتعليم في البلاد يشهدان اختلالات كثيرة؛ ويعيشان حالة من الهشاشة والضعف لا تتناسب مع محوريّتهما في التنمية.
فعلى مستوى قطاع الصحة؛ يقول ولد امبالة في حديثه لفريق التحقيق : "إن واقع الهشاشة هذا يتمثل في ندرة الكادر البشري والتي تتجسد في معظم المستشفيات رغم مئات الأطباء المطالبين بالتوظيف".
ويتحدث لنا ولد امبالة بلغة الأرقام فيقول إن "ولاية مثل الحوض الشرقي - وهي ولاية حدودية تقع في اقصى شرق البلاد ويناهز عدد سكانها نصف مليون نسمة- يوجد فيها مقابل كل 10 آلاف امرأة في سنّ الإنجاب "6 قابلات فقط" في حين تتوفرجارتها " ولاية الحوض الغربي" على 3 قابلات فقط لكل 10 آلاف أمرأة في سن الإنجاب، فضلًا عن معدّل طبيب 1 واحد لكل عشرين ألف شخص في ظل انتشار البطالة في صفوف الأطباء، من أخصائيين وأطباء عامون وممرضين وتصاعد الاحتجاجات المطالبة بالتوظيف إلا أن الدولة ماتزال تتصامم عن أصوات المحتجين، رغم حاجتها الماسة لتغطية هذا النقص الكبير في الكادر البشري.
وردا على تصريحات النائب البرلماني أحمدو ولد امبالة قال المستشار الإعلامي بوزارة الصحة أحمد بداه إن عدد الأخصائيين في ولاية الحوض الشرقي التي ذكرها النائب البرلماني ارتفع من 5 في عام 2019 إلى 11 أخصائي في عام 2022، فيما ارتفع عدد الأطباء العامين في الولاية من 16 طبيبا عاما إلى 27 ، كما ارتفع عدد القابلات من 36 قابلة إلى 91 ، والممرضون من 311 ممرضا إلى 494 ممرض، خلال نفس العام.
قطاع التعليم..تعيينات مشبوهة وعلاوات لغيرمستحقيها
في الرابع من شهر يناير الجاري اطلعنا على وثيقة مسربة صادرة عن الميزانية العامة للدولة في 28 ديسمبر 2022، تظهر قيام ووزارة التهذيب المعنية بالتعليم الأساسي في موريتانيا بمنح أكثر من 1000 شخص علاوات تحت بند علاوة الطبشور.
المفاجئة كانت أن الذين حصلوا على العلاوات من غير المستحقين لها قانونيا، حيث أشارت الوزارة في مرسوم صادر لها بتاريخ الثالث والعشرين من مارس 2022، على أن علاوة الطبشور لا تمنح إلا للمدرسين الذين يمارسون عملهم في الأقسام الدراسية ومديري المؤسسات التعلميية.
وتكشف الوثيقة التي تحصلنا عليها عن استفادة 938 موظف من وزارة التعليم العالي و96 موظفا في إدارة الامتحانات و47 موظفا من ديوان الوزير من العلاوات في مخالفة لنص المرسوم المتعلق بعلاوة الطبشور الذي يحصرها في المدرسين الممارسين للمنهة في الميدان و تبلغ علاوة الطبشور 45000 أوقية شهريا أي ما يعادل 132 دولار شهريا.
وقد حصل فريق التحقيق على وثيقة تعميم صادرة عن الأمين العام لوزارة التهذيب (التعليم الأساسي والثانوي) تشترط ممارسة التدريس الميداني في الحصول على علاوة الطبشور، مما يعكس بجلاء استشراء الزبونية والمحسوبية في الإدارة العامة؛ والذي على أساسه تم منح هذه العلاوات لغير مستحقيها من الموظفين في ديوان الوزير وغيرهم.
وفي ذات السياق يعلق النائب البرلماني محمد الأمين ولد سيدي مولودعلى موضوع التعيينات غير القانونية في قطاع التعليم، مؤكدا أنها تحتاج لمزيد من الشفافية والصرامة، منتقدا تعيين وزارة التهذيب الوطني وإصلاح النظام التعليمي (التعليم الأساسي والثانوي) لمستشارين تربويين خارج الأطر القانونية المعروفة.
حيث قامت وزارة التهذيب الوطني منتصف شهر يناير بترقية قرابة أربعين معلما إلى رتبة مستشار تربوي، في سابقة من نوعها وبعيدا عن المساطر القانونية المتبعة في اختيار وتعيين المستشارين التربوين.
وقال ولد سيدي مولود في حديثه لفريق التحقيق "إن الوزارة اتخذت قرار تعيينهم دون الاستناد إلى نصوص القانون الخاصة بمفهوم المستشار التربويالتي يحددهالمقرر 141 من النظام التربوي الموريتاني الصادر بتاريخ 24 نوفمبر 1975.
وحول هذه القضية سأل فريق التحقيق الأستاذ سعد بوه الشيخ سيدي محمد الإطار بوزارة التهذيب الوطني وإصلاح النظام التعليمي في موريتانيا؛ عن رأيه في طرق اكتتاب وتعيين الموظفين في الوزارة.
فرد بأن الاكتتاب في الوظيفة العمومية لا يتبع لوزارة التهذيب الوطني، بل تشرف عليه اللجنة الوطنية للمسابقات من بداية دفع الملفات وحتى إعلان النتائج،أما التعيينات فهي سلطة "تقديرية" منحها القانون لمجلس الوزراء،أو للوزير والأمين العام للوزارة، ومن يتم تعيينهم هم موظفون رسميون غالبا، (معلمون، أساتذة،مفتشون..) على حد تعبيره.
وكان ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي قد تداولوا في الثامن والعشرين من يوليو 2023 وثيقة مسربة موقعة من طرف الأمين العام السابق لوازرة التهذيب الوطني وإصلاح النظام التعليمي تحمل أسماء 282 معلما، تمت تسميتهم مستشارين تربويين في الوزارة مما أثار جدلا واسعا في الأوساط التعليمية، دفع الوزارة إلى تجميد العمل بمذكرة تعيينهم بعد يومين من تسريبها في انتظار التحقيق والتأكد من المعيارية التي على أساسها تم التعيين.
ارتفاع الميزانية المخصصة للتعليم.. واتهامات بتبديها في أمور ثانوية
لاحظنا أثناء إعداد هذا التحقيق أن برنامج الحكومة الذي عرضه الوزير الأول أمام البرلمان في السادس والعشرين من يناير 2022 تضمن زيادات معتبرة على مستوى ميزانيات التعليم، وبحسب الوزير الأول فإنه على مستوى التعليم الأساسي ارتفعت المخصصات من 13,2مليون أوقية سنة 2021 إلى 23,5 مليون أوقية ما يعادل 633 ألف دولار سنة 2022، اي بنسبة 43٪؛ وعلى مستوى التعليم الثانوي، زادت المخصصات المالية من 7,5مليون أوقية أي 193 ألف دولار سنة 2021إلى 11,5مليون أوقية أي 303 مليون دولار أمري سنة 2022، أي بنسبة 62 .٪
كما زادت المخصصات المالية للمدارس الابتدائية والثانوية لتمكينها من القيام بمهامها حسب تعبيره، وانتقلت من 61,3 مليون أوقية أي مليون وستمائة وسبعة سبعين ألف دولار 1677000 سنة2021 إلى 97,6 مليون أوقية سنة 2022.هنا
ورغم الارتفاعات المتزايدة لمخصصات القطاع، إلا أن نقابات التعليم في البلاد ماتزال ترفع الصوت عاليا ضد ما تصفه بتبديد هذه النفقات في مسائل ثانوية كالورشات والتكوينات على حساب ما هو أكثر أهمية –حسب تعبيرهم- مثل الرواتب والعلاوات، حيث قال الأمين العام للنقابة المستقلة للأساتذة في موريتانيا أحمد بيداه "لـفريق التحقيق" بأن وزاراتي التهذيب والتعليم في موريتانيا تهدران النفقات والميزانية المخصصة للتعليم من خلال صرفها في ورشات تكوينية لا طائل من ورائها، وليس لها أي تأثير على المستوى التعليمي في البلاد -حسب رأيه- مطالبا بترشيد ميزانية وزارة التهذيب الوطني، وبإشراك النقابات التعليمية في علميات التأطير والتكوين.
وذهب أمين الإعلام في النقابة الحرة للمعلمين الموريتانيين الشيخ بابا ولد محمد لمجد إلى"أنه لا انعكاس يذكر للنفقات الخاصة بالتعليم على واقع المنظومة التربوية؛ إذا ما استثنينا بعض النفقات الخاصة ببند الرواتب والعلاوات التي تعاني هي الأخرى من عدة اختلالات تحول دون منحها مردودية أكثر فائدة، بالنسبة للمدرسين يضيف ولد امجد معتبرا أنه لا توجد آلية شفافة تمكن من صرف هذه الميزانيات بشكل صحيح وفق قوله.
هذه الشكوك التي تثيرها النقابات ومن وجهة نظر مختلفة جاء رأي الأستاذ سعد بوه الشيخ سيدي محمد الإطار بوزارة التهذيب الوطني مخالفا لما ورد في تصريحات النقابيين حيث رأى أن التكوينات مهمة؛ لأن التكوين المستمر ضروري لتحسين كفاءة الموظفين، والوزارة تحرص على برمجة بنود ميزانيتها بطريقة تحقق أكبر استفادة للعملية التربوية بشكل عام، وليس هناك هدر للمال العام، والجهات الرقابية تمارس عملها بانتظام، وفق تعبيره .
ويشيد ولد سيدي محمد في حديثه للعربي الجديد بارتفاع نسبة مخصصات التعليم ضمن الميزانية العامة للدولة، حيث بلغت هذه السنة 18%، مؤكدا على حصول تحسينات هامة على رواتب موظفي التعليم خلال السنتين الأخيرتين، تمثلت في زيادة رواتب المدرسين وصرف مكافأة خاصة للمعلمين والأساتذة الموجودين في الميدان، فضلا عن زيادة علاوة البعد(وهي علاوة تمنح للمدرسين في الأرياف البعيدة) زيادة وصلت حد الضعف تقريبا، وزيادة علاوة الطبشور بخمسة عشر ألف أوقية، وصرفها على مدى 12 شهرا، بدل تسعة أشهر،بالإضافة إلى تحسينات أخرى عديدة،حسب رأيه.
تربويون يلخصون مشاكل التعليم في البلاد ويقترحون لها حلولا
كان اتهام نقابات التعليم للقطاعات الوصية بإهدار النفقات وتبديدها في ما لا طائل من ورائه، واعتبارهم ذلك من العوامل الرئيسية لتراجع التعليم في موريتانيا، وتبرير مسؤولي الوزارة لهذه القضية بضرورة الصرف على تجويد العملية التربوية، حافزا لنا على اللجوء إلى خبراء تربويين لفهم الإشكالات البنيوية لتراجع التعليم في البلاد، ولنسبر أغوار هذه القضية سألناهم عن أسباب تراجع التعليم في موريتانيا من وجهة نظر تربوية؟ وعن تشخيصهم لشكل هذا التراجع وعواقبه ومقترحات حلها؟)
يقدم الأستاذ المصطفى اكليب وهو مفتش تعليم ثانوي وأستاذ مدرس منذ ما يربوعلى ثلاين عاما رأيه فيقول : "إن المنظومة التربوية الموريتانية تعاني من جملة من المشاكل المزمنة أبرزها استمرار التسرب المدرسي في جميع مراحل التعليم خصوصا بالنسبة للبنات وضعف المستويات وكذا ضعف مؤهلات بعض المدرسين وحاجتهم إلى التكوين والتأطير"
ويضيف ولد اكليب أن من ضمن هذه "المشاكل المزمنة" انعدام الصرامة في تسيير الموارد البشرية ومزاولة مهنة التعليم في ظروف غير مشجعة، وبرواتب لا تتناسب مع الجهود التي يبذلها أهل التعليم، مع انعدام معايير الشفافية والنزاهة بالنسبة لتحويلات المدرسين وترقياتهم مشيرا إلى أن هذه المشاكل تسببت من بين أمور أخرى، في ضعف نسب النجاح في الامتحانات الوطنية خصوصا في امتحان البكالوريا (الثانوية العامة) مقارنة بنسب النجاح في دول الجوار.
ولحل هذه المشاكل المزمنة والتغلب عليها يقترح ولد اكليب وضع استراتيجية عامة تحدد الأهداف العامة والأهداف المرحلية، وتحدد الوسائل وتحرص على التطبيق أكثر من التنظير مع احترام الشفافية المطلقة، ومعايير النزاهة الواضحة كما تركز على الموارد البشرية بحيث يتم تحسين ظروف عمل المدرسين من خلال زيادة رواتبهم،ليصبح التعليم بيئة جاذبة لا طاردة مع أن وزراء التهذيب(التعليم) المتعاقبين في الحقبة الأخيرة قد بذلوا جهودا قيمة على مستويات متعددة يقول اكليب.
أما المفتش والخبير التربوي محمدن الرباني فيرجع تراجع مستوى التعليم في البلاد إلى جملة من العوامل أبرزها الارتجالية في الإصلاحات وعدم اتخاذ الإجراءات المصاحبة اللازمة لكل إصلاح وتسييس التعليم من قبل الأنظمة واتخاذه آلية لتخفيف الضغط الداخلي أو الخارجي وكذلك اتخاذه ورقة انتخابية رابحة- كما يقول- وضعف الموارد المرصودة للتعليم الذي يحتاج بطبعه لموارد ضخمة تصل في بعض الميزانيات إلى أكثر من ثلث الميزانية العامة.
كما يعدد ولد الرباني من بين هذه العوامل -التي تراجع التعليم بسببها- اعتماد الوساطة والتزلف أهم آليات الترقي الوظيفي والتحويل إلى الأماكن المرغوبة وإفساد الخريطة المدرسية وسوء التوزيع البالغ للموارد البشرية الإدارية والتعليمية وكذا الظروف المعيشية القاسية، التي يعيشها عمال التعليم مما فرض عليهم الاشتغال باعمال أخرى على حساب أدائهم التربوي وفق تعبيره.
أما عن الحلول فتكمن في أمرين بالغي الأهمية -بحسب ولد الرباني- أولهما تخصيص موارد مالية كافية، قادرة على توفير البنى التحتية المناسبة، وإنجاز الوسائط التربوية اللازمة، وتمكين عمال التعليم من رواتب تضمن الحياة الكريمة وثانيهما الصرامة في ضبط الموارد البشرية وتطويرها وتوزيعها بعدالة، واكتتاب الحاجة منها من ذوي التميز، وتفعيل مبدأ العقوبة والمكافأة.
بيروقراطية.. ووساطات نافذين تعرقل الولوج لخدمات الصحة والتعليم
سألنا عينة من المواطنين شاركت في استطلاع رأي أجراه فريق التحقيق؛ عن مدى الاستفادة من خدمات الصحة والتعليم في موريتانيا، وصعوبات الولوج إلى خدماتهما.
وأبانت آراء أغلب المشاركين الذين شملهم الاستطلاع؛ عن مستوى كبير من الامتعاض من حالة الخدمات الصحية في البلاد.
حيث قيم جزء من العينة الخدمات الصحية في البلاد من شبه معدومة إلى ضعيفة، فيما اعتبرها آخرون متوسطة إلى مقبولة.
أما على مستوى التعليم فقد كانت الصورة أقل سوداوية حيث عبر العديد من أفراد العينة عن رضاهم عن مستوى خدمات التعليم مقارنة بمستوى خدمات الصحة.
واستهدف الاستطلاع عينة من 50 شخصا، من ذوي خلفيات متعددة بينهم مواطنون عاديون وصحفيون، وطلبة جامعيون ومدرسون وبعض مراجعي المستشفيات والعيادات الصحية.
وفيما يتعلق بالشق الثاني من الاستطلاع فقد عبر عدد من أفراد العينة المستهدفة عن مواجهتهم لمشاكل وصعوبات تحول دون ولوجهم لهذه الخدمات، من قيبل انتشار الوساطات وتسليط سيف البيروقراطية على رقاب المستفيدين من هذه الخدمات، كما عبر عدد آخر من أفراد العينة عن عجز النظامين الصحي والتعليمي عن تغطية الطلب المتزايد عليهما، في حين عبر عدد آخر عن تحسن ملحوظ في هذه الخدمات في الآونة الأخيرة، وأشار بعضهم إلى ارتفاع أعداد المرضى الذين يستشفون في الخارج وخاصة في الدول المجاورة.
إعداد: الطالب النافع افاه
بمساعدة: حبيب الحاج