مقالات\ اختلال ترتيب الأولويات التنموية: مهرجان “مدائن التراث” نموذجًا

#تدوينات 

بقلم : ديدي السالك/ رئيس المركز المغاربي للدراسات الاسترتيجية 


 

اختلال ترتيب الأولويات التنموية: مهرجان “مدائن التراث” نموذجًا


 

لا يزال اختلال ترتيب الأولويات يشكّل أحد أبرز العوائق البنيوية أمام تحقيق تنمية حقيقية ومستدامة في بلادنا. ويتجلى هذا الخلل بوضوح في السياسات العمومية التي تفضّل الإنفاق الاحتفالي والرمزي على حساب الاستثمارات الأساسية التي تمسّ حياة المواطن اليومية. ويُعدّ مهرجان “مدائن التراث”، كما يُنظم في بعض المدن التاريخية، نموذجًا دالًا على هذا الاختلال.


 

ففي مدن تاريخية مثل وادان، المصنّفة ضمن التراث العالمي، ما تزال الساكنة تعاني من العزلة الجغرافية، وهشاشة البنية التحتية، وضعف الخدمات الأساسية. طرق متهالكة، نقص في المرافق الصحية، مدارس محدودة الإمكانيات، وشبكات مياه وكهرباء غير مستقرة، فضلًا عن غياب التخطيط العمراني المنظم. ورغم ذلك، تُرصد مبالغ ضخمة لتنظيم مهرجانات موسمية، تُنفق أساسًا على السهرات الفنية، واللوجستيك، وضيافة الوفود، دون أن ينعكس ذلك بشكل ملموس على حياة السكان.


 

ويطرح هذا الواقع سؤالًا جوهريًا: ما الجدوى من إنفاق مليارات الأوقية على تظاهرات ظرفية في مدن تعاني من الفقر والتهميش؟ أليس من الأجدر توجيه هذه الموارد نحو مشاريع مدرّة للدخل، تخلق فرص عمل دائمة، وتُخرج الساكنة من دائرة العوز، بدل الاكتفاء بتنشيط اقتصادي مؤقت ينتهي بانتهاء أيام المهرجان؟


 

إن الترويج للتراث الثقافي هدف مشروع ومهم، ولا يمكن التقليل من قيمته الرمزية والسياحية، غير أن هذا الترويج لا ينبغي أن يتم بمعزل عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمدن المعنية. فالتراث ليس مجرد حجارة أو مهرجانات، بل هو قبل ذلك إنسان يعيش في ذلك الفضاء التاريخي، ويحمل ذاكرته وقيمه. ولا يمكن حماية التراث أو تثمينه في ظل الفقر، والهشاشة، وغياب الخدمات الأساسية.


 

كما أن التنمية لا تُقاس بعدد المهرجانات ولا بحجم الإنفاق الإعلامي المصاحب لها، بل تُقاس بقدرة السياسات العمومية على تحسين ظروف عيش المواطنين، وتقليص الفوارق المجالية، وتحقيق العدالة في توزيع الموارد. أما حين تتحول المهرجانات إلى أولوية بحد ذاتها، فإنها تصبح عبئًا ماليًا ورمزًا لفشل التخطيط، بدل أن تكون رافعة للتنمية المحلية.


 

إن مراجعة سلم الأولويات باتت ضرورة ملحّة. فمدن التراث تحتاج أولًا إلى طرق، وماء، وكهرباء، ومدارس، ومراكز صحية، ومشاريع إنتاجية، قبل أن تحتاج إلى منصات غنائية واحتفالات موسمية. وحده هذا النهج كفيل بأن يجعل من التراث رافعة حقيقية للتنمية، لا مجرد واجهة احتفالية تُجمّل واقعًا مأزومًا دون أن تغيّره.