سنتان من "الشعر الحر" / د.عبدوتي عال محمد أحمد
يطمح الموريتانيون إلى نظام راشد، يتراجع فيها دور "الأشخاص" لصالح "القانون" و"المؤسسات"، فبنو أدم أحوالهم متقاربة حتى لو ظنهم "المتفائلون" غير ذلك، وإذا لم نعتمد آليات الحكم "المؤسسية" فعلينا أن نوطن أنفسنا على تلقي "الصدمات" وتحمل "الإحباطات"، والصبر على "قصائد الشعر الحر" التي تقتل الذوق الأدبي والفطرة السليمة.
يمتلئ الفضاء الإعلامي هذه الأيام بالقصائد المديحية للرئيس وانجازاته، وإن صففت على شكل مقالات، يدبجها الوزراء، وكبار موظفي الدولة، ومن يوظفونهم، ومن الطبيعي أن لا يُتوقع "التوازن"من هؤلاء، والغالب أن ما يكتبونه تنقصه"الحصافة" ويفتقد "الذكاء"، مصداقا لمقولة أحمد رجب الساخرة "يولد المصري ذكيا، ويظل ذكيا، حتى يصبح موظفا في الحكومة".
غير أن هذه الجوقة انضم إليها هذه المرة "أنصار النظام" المتنكرون في "أثواب" المعارضة، وليس ذلك جديدا، فقد أكد هيرتا مولر أنه "في كل ديكتاتورية يشارك عدد كبير من المثقفين في جرائم الحكومة" ويبدو –و أرجو أن أكون مخطئا- أننا نواجه دكتاتورية في "طور التشكل" بدليل "قانون الرموز"، أو ربما نسخة جديدة "أليفة" من دكتاتورية عتيقة تريد توظيف "المساحيق" لتواجه عاديات الزمن، ولا أظن أن هناك خلافا في أن العسكر "فكرا وممارسة" كانوا هنا، ومازالوا، وهم عازمون على البقاء، ما أمكنهم ذلك، حتى ولو تم تلميع "الواجهات".
يحتاج هذا الوطن إلى إعادة ترتيب الأولويات والتركيز على القضايا الجوهرية بما يضمن استعادة ثقة الموريتانيين بـ"مؤسسات" الدولة لا بـ"الأشخاص"، أما تكرار سيمفونية الانجازات التي تمت بتوجيهات "صاحب الفخامة" فهي استمرار لنهج النسخة المنتهية الصلاحية لنظام الرئيس عزيز، لقد بنى نظام الرئيس عزيز المطارات والموانئ والجامعات والمستشفيات والمدارس والطرق، وكانت أرقام الاقتصاد الكلي متفائلة دائما، فلماذا عارضناه، لقد عارضنا نهجه "غير المؤسسي" الذي يُسير البلد وفق مزاج "الفرد" المنمق بالدعاية، وتلك مخاطرة- مهما كان الفرد صالحا- لأنها الخطوة الأولى لصناعة الأصنام، ولا تنسوا أن ودا و سواع و يغوث ويعوق ونسرا كانوا جميعا رجالا صالحين، وتم تحويلهم إلى أصنام، و"قد أضلوا كثيرا".
انه لمن المحبط والمؤسف حقا أن تتجدد محاولات بناء منظومة جديدة وضخمة من الدعاية للفرد تعتمد نفس الرطانة المخادعة للشعب و تستهدف صناعة أوهام العظمة لدى الحاكم و إبعاده عن الواقع، ليسهل "احتكاره".
رغم بقاء خيط من الأمل ، لا خلاف بين "العقلاء" في تراجع شعبية الرئيس وحكوماته، بعد فترة من التفاؤل والتفهم بل والتشجيع من طرف عامة الشعب ونخبه، ولكن التفاؤل أخذ في التناقص وخصوصا بين الفئات الشابة تحت سن 35 و التي تمثل 70% من الشعب الموريتاني، وهي الفئات الأكثر تضررا من تراجع الأداء الحكومي، ولكم أن تخمنوا نسبة الراضين منهم عن أداء الحكومات المتعاقبة لتكتشفوا أن "الإسهال" الإعلامي ناجم عن "أنيمياء" حادة في التقبل الشعبي للأوضاع.
إن تزايد البطالة، وغلاء الأسعار غير المبررفي مقابل جمود الرواتب والأجور، والتزايد الكمي والنوعي للجريمة، وتدوير "عتاق" المفسدين وإعادة إنتاج طبقة "فتية" منهم، مع اعتماد نفس الأساليب التقليدية في إدارة الدولة والمجتمع لا تترك إلا هامشا ضئيلا للتفاؤل، وتدفع بزينة شبابنا إلى الانكفاء آو الهجرة، بعد أن خذلتهم نخبة "حربائية"، وبعد أن تأكدوا من ديمومة سياسات قديمة تطل برأسها في تعيينات مجلس الوزراء التي ظلت "دُولة بين "المحظوظين العابرين للأنظمة"، وبعد أن عاينوا استمرار إفلات المفسدين من المتابعة والعقاب وكأن الفساد توقف عند عدة ملفات تناولتها لجنة برلمانية مؤقتة عانت من "الحول" و انتهت صلاحيتها، لتتحول آليات الرقابة في البرلمان وخارجه إلى أداة سياسية تعزز بها السلطة نفوذها وتعظم بها أرباحها المادية والسياسية.
لا تزال كرامة الفرد وحرمته في مؤخرة الأولويات فما يهم الحكومة هو كرامة "الرئيس" وحماية "أدواته"، إلى درجة السعي لمنع تصوير أفراد الشرطة أثناء ممارستهم "للقمع" الذي تكررت مشاهده بصورة مقززة دون رادع أو متابعة.
إن الشعور المتفاقم بالإحباط من وقوع تغيير جاد، والمعايشة اليومية للمعاناة الممزوجة باليأس، يجعل الأرقام التي يتحدث عنها الوزراء اقرب إلى "الشعر الحر الرديء في أذن الشاعر محمد الحافظ لد احمدو"، ولذلك فهي تصطدم بالتهكم واللامبالاة في أحسن الأحول، وتكفي نظرة بسيطة إلى وسائل التواصل الاجتماعي لاكتشاف حجم التناقض بين ما يشعر به الناس من واقع مرير والسرديات الرسمية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.