محمد سالم ولد محمد يكتب عن مستقبل النفوذ الفرنسي في القارة الإفريقية
تحوَّل مؤتمر إفريقيا وفرنسا في نسخته الأخيرة التي نظَّمتها باريس، في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2021، بين رئيسها ماكرون، والشباب وقادة منظمات المجتمع المدني الإفريقي، إلى محاكمة علنية قوية المرافعات والأحكام ضد فرنسا الاستعمارية.
وجد الشباب الإفريقي متسعًا من القول، فأسمعوا الرئيس الفرنسي ما لا يسره سماعه، وتحدثوا بألم وحنق عن تاريخ وراهن العلاقة بين بلدانهم ومستعمرهم الفرنسي.
ومن بين المخرجات المؤلمة للمؤتمر، اعتراف الرئيس الفرنسي، ماكرون، بأن العلاقة بين باريس والدول الإفريقية يجب أن تأخذ وجهًا جديدًا، وأن فيها أخطاء متعددة.
يحق التساؤل بعد القمة، كيف تدفق كل هذا الغضب الإفريقي ليعبِّر عن نفسه في قلب فرنسا؟ وعلى أي شاطئ سياسي أو ثقافي ترسو الآن علاقة فرنسا بمستعمراتها السابقة في إفريقيا؟ وأي مدى يلوح في الأفق لهذه العلاقة الضاربة في عمق التاريخ والمتآكلة الآن في فضاءات المستقبل؟
فرنسا وإفريقيا: تاريخ وحاضر تحت سقف الاستعمار
تمتد العلاقة بين فرنسا وإفريقيا في أعماق الزمان، على ضفاف ثلاثة قرون أو أكثر من الاستعمار المباشر، وعلى آماد المكان أيضًا في خارطة احتلال هي الأكبر بين الدول والإمبراطوريات التي تقاسمت القارة السمراء منذ مؤتمر برلين، سنة 1884، والذي وزَّع القارة السمراء بين نفوذ قوى دولية استقرت فيها قبل ذلك بقرنين أو أكثر.
وفي الوجدان والثقافة والتاريخ والهوية، فإن لفرنسا في إفريقيا حضورًا قويًّا مؤثرًا، صنع أغلب الماضي القريب، وما زال مؤثِّرًا في المستقبل، ممسكًا بزمام الحاضر.
وقد تأسَّس الإرث الاستعماري والنفوذ الفرنسي في إفريقيا على ركائز أساسية، أهمها: الإدارة السياسية والتحكم الاقتصادي والاستلاب الثقافي.
لا يمكن فصل حاضر النفوذ الفرنسي الإفريقي عن حقبة الاستعمار التي تأسس في ظلالها، وكان رجع صدى ونتيجة حتمية لسياساتها في تلك الفترة، وأبرز معالم هذا التأسيس:
امتداد حقبة الزمن الاستعماري: الذي بدأ عمليًّا مع ما يُعرف بالحقبة الاستعمارية الفرنسية، التي أعقبت هزائم الإمبراطور الفرنسي الكبير، نابليون بونابرت، داخل أوروبا، وهزيمته أيضًا في الشرق الأوسط؛ مما جعل الذراع الاستعمارية الفرنسية، تتجه جنوبًا نحو القارة الإفريقية بعد أن كانت تركز في نشاطها الاستعماري الذي تقوده شركة الهند الشرقية الفرنسية على مناطق شرق آسيا.
اتساع خارطة المستعمرات: فلم تنقض العشرية الأولى من القرن العشرين، حتى استطاعت فرنسا بسط نفوذها على حوالي 35% من أراضي إفريقيا، وامتد سلطانها على بلدان متعددة، منها على سبيل المثال في شمال إفريقيا: المغرب، والجزائر، وتونس، وموريتانيا. وفي جنوبها دول السنغال ومالي وبنين وتوغو وغينيا كوناكري، وبوركينا فاسو، وكوت ديفوار، والنيجر، والكاميرون، وجزيرة ألبيريدا في غامبيا.
وفي جنوب القارة، وضعت فرنسا اليد سريعًا على دول إفريقيا الاستوائية، وتشاد، والكونغو، والغابون، كما استولت على أرض وسط إفريقيا، وأقامت هناك نظامًا استعماريًّا مفعمًا بالجرائم والنهب المنظَّم للثروات.
وقد وطَّدت أركان هذا الاحتلال قسوة الفرنسيين، وجرائمهم المتعددة في مناطق واسعة من القارة، فكتبوا تاريخ الاحتلال بسطور المجازر، التي راح ضحيتها الآلاف من النخب الوطنية والدينية في إفريقيا، زيادة على الاستعمار الثقافي الذي تعامل مع الشعوب الإفريقية بفوقية واستعلاء، مقدِّمًا الجنود والرهبان الفرنسيين على أنهم رسل الحضارة، وملائكة التقدم، الذين سيعمِّدون الشعوب البدائية والمتوحشة، ويُدخلونها حظيرة
الحضارة أول مرة. وهكذا تكامل على القارة، سطوة الإرهاب وقسوة اللهب، وعنف التخدير الثقافي والتبشير الديني الذي استهدف تحوير معتقدات الأفارقة، ومدَّ بساط المسيحية في منطقة كانت موزعة تاريخيًّا بين الإسلام والديانات الإفريقية الوثنية القديمة.
صناعة نُخَب ما بعد الاستقلال: لم تكن نهاية الحرب العالمية الثانية حَدَثًا بسيطًا في العالم، فإذا كانت قد أسكتت بنادق الحلفاء فيما بينهم، وكلَّفت القارة الإفريقية وحدها على سبيل المثال مليون جندي إفريقي ساروا تحت ألوية الجيش الفرنسي، ودافعوا عن الشرف الفرنسي، وهو يواجه عسف العنف الألماني، وفقدوا في ذلك عشرات الآلاف من القتلى، فإنها أيضًا فتحت بوابة تحرر ثوري في مختلف الشعوب المحتلة.
ولم يكن لفرنسا بُدٌّ من الانحناء للعاصفة الثورية، وبهذا عملت على تأسيس نخبة الاستخلاف التي ستقود الحكم السياسي وإدارة مفاصل الحياة في بلدان إفريقيا الفرنسية.
ولإدارة ما بعد الاستقلالات الشكلية، كان الرئيس الفرنسي، شارل ديغول، حريصًا خلال منتصف الأربعينات على إقامة اتحاد إفريقي-فرنسي، تكون لفرنسا فيه اليد الطولي والتمثل القوي. وهكذا، دخل أفارقة منتخبون إلى البرلمان الفرنسي منذ العام 1946 وحتى الاستقلالات الإفريقية مطلع عقد الستينات(1).
وقد أعاد ديغول تشكيل الرؤية الفرنسية تجاه إفريقيا من خلال مشروع "فرانس أفريك" الذي أعدَّه كبير مستشاريه، جاك فوكار، والذي استحق به لقب أبي الاستعمار الفرنسي الجديد لإفريقيا. وقد وظف مشروع "فرانس أفريك" رافعة للسياسة الفرنسية الجديدة تجاه إفريقيا والتي قامت على مثلث الاستعمار والاستنزاف الاقتصادي والاستلاب الحضاري(2).
الاستقلال الشكلي: صناعة ما بعد الاستعمار
لم تنته الحرب العالمية الثانية، إلا بعد أن أشعلت لهب الثورة والتحرر في المستعمرات بشكل عام، وأجَّجت ضمير التحرر في مختلف بلدان العالم، وكان لإفريقيا نصيبها من هذا الحراك، وقد انحنت فرنسا للعاصفة، وأعادت تشكيلها بسرعة، خلال مسار من التهيئة السياسية استمرَّ ما بين منتصف الأربعينات وبداية الستينات، وذلك من خلال صناعة وتهيئة رؤساء وحكام ما بعد الاستقلال.
وقد استطاعت فرنسا بقوة أن تتخلص من بعض الأنظمة الوطنية والثورية ذات النَّفَس الاشتراكي والتي حكمت بلدانًا من القارة خلال عقد الستينات، كما حصل على سبيل المثال في كوت ديفوار، عندما قضت فرنسا وأعوانها على الثائر الإفريقي، توماس سنكارا، ليخلو الجو بعد ذلك لخلفائها لممارسة حكم مباشر يتناغم في كثير من ممارساته وتوجهاته مع الأهداف الاستعمارية لفرنسا(3).
صناعة الديمقراطيات الهشَّة: وكما انحنت فرنسا لعاصفة التحرر في عقدي الخمسينات والستينات، فقد انحنت أيضًا لرياح الديمقراطيات التي أعقبت سقوط جدار برلين، وكان مؤتمر لابول الذي دعا له الرئيس الفرنسي الراحل، فرانسوا ميتران، سنة 1990، بوابة فرنسا للتحكم في الديمقراطيات الإفريقية الجديدة، والتي لم تكن أكثر من "تَمْدِين شكلي" للأنظمة العسكرية والديكتاتورية التي كانت تحكم القارة(4).
تنفيذ ورعاية الانقلابات: كانت الانقلابات -ولا تزال- أسرع الطرق للحكم والتغيير السياسي في إفريقيا، وتأتي هذه الانقلابات إما لإنهاء نظام حكم ديكتاتوري، أو لإنهاء أزمة سياسية، وغالبًا ما تأتي تلبية لشهوة الحكم والسيطرة عند جنرال أو مجموعة جنود، وقد تأتي أيضًا لتحقيق مآرب خارجية، مثل الحفاظ على المصالح الذاتية للمستعمر، وفي كل الحالات، فإن دعم فرنسا أو حماية مصالحها شرط دائم لنجاح استقرار هذه الانقلابات أو استمرارها.
وقد شهدت القارة الإفريقية أكثر من 200 محاولة انقلابية خلال ستينيَّاتها، وكانت فرنسا حاضرة في أغلبها تخطيطًا ورعاية ودعمًا.
وفي دفاتر التاريخ الإفريقي المعاصر صفحات حمراء متعددة، من الانقلابات ذات الخلفية الفرنسية، ومنها على سبيل المثال، انقلاب العقيد، جان بيدل بوكاسا، في جمهورية إفريقيا الوسطى، وقد تحول هذا العقيد مع الزمن في نظر الإعلام الفرنسي إلى ديكتاتور وحشي، يأكل لحوم البشر، ونُسجت حول وحشيته عشرات القصص المروعة، قبل أن تتدخل فرنسا مجددًا، وتطيح به في انقلاب عسكري، نهاية الثمانينات(5).
أما في بوركينافاسو، فقد رعت فرنسا انقلاب جنديها السابق، النقيب سانجو لاميزانا، على الرئيس المنتخب، مويس باماجو، كما رعت انقلاب النقيب ماثيو كيركو، وهو كسابقه ضابط سابق في الكتيبة الفرنسية الإفريقية؛ حيث أطاح بالرئيس هوبرت ماجا. وفي مالي، كانت باماكو على موعد مع انقلاب فرنسي التخطيط والوجهة، حينما أطاح العقيد موسى تراوري، بالرئيس الاشتراكي، موديبو كيتا، وألقاه في السجن إلى حين وفاته.
وفي موريتانيا، كانت فرنسا حاضرة بقوة في سلسلة الانقلابات التي شهدتها البلاد سنوات 1978-1984-2005-2008، تخطيطًا ورعاية ودعمًا.
وأخيرًا، كان الانقلاب العسكري في غينيا كوناكري(6) مرسومًا بملامح فرنسية، بداية بتنفيذه من ضابط سابق في الجيش الفرنسي، ليعيد بذلك مصالح فرنسا بعد أن هددها التقارب المتزايد بين الرئيس المطاح به، ألفا كوندي، وتركيا والصين في مجالات سياسية وأمنية واقتصادية. وما من شك أن الانقلابات العسكرية، وثورات القصور، والاغتيالات هي أسلوب فرنسي تقليدي ومستمر في تعاملها مع أنظمة مستعمراتها القديمة، لكن فرنسا أضافت إليه بعدًا آخر، وهو العمليات العسكرية الموسعة، التي تعزز دور الانقلابات، وقوة القواعد العسكرية الثابتة.
ومن أبرز العمليات العسكرية التي نفذتها فرنسا خلال العقد المنصرم، وخصوصًا في منطقة الساحل الإفريقي، عملية برخان التي انطلقت في أغسطس /آب 2014 في منطقة الساحل، وخصوصًا مالي، وكذلك عملية سيرفال، وعملية إيبرفييه في تشاد، وعملية سانغاريس في إفريقيا الوسطى، زيادة على العملية العسكرية الموسعة في ليبيا، والتي كان لها دور أساسي في إسقاط نظام العقيد القذافي.
ويؤدي هذه العمليات آلاف الجنود الفرنسيين، الموزعين على قواعد متعددة في عدد من الدول الساحل(7).
وقد سمحت هذه العمليات وتلك القواعد المستقرة، والطيران العسكري الفرنسي العابر للأجواء الإفريقية، بإقامة جيوش مستقرة وثابتة في عمق القارة الإفريقية.
ولا شك أن التأثير السياسي والأمني والعسكري لفرنسا في القارة السمراء، حقَّق لأنظمتها ولباريس على حدٍّ سواء مكاسب سياسية متعددة، كما جلب لها أيضًا مخاوف وأزمات متعددة.
أبرز المكاسب المتبادلة
لعل أبرز حصيلة اكسبتها الأنظمة الإفريقية تحت الغطاء الفرنسي، هي:
التقاء حاجة الأنظمة السياسية الهشة أو الاستبدادية إلى سند دولي يعزز قوتها أو يحميها في مواجهة خصومها المحليين، وجيرانها المتربصين.
تحقيق مستوى من التوازن والاستقرار بين القوميات ومراكز الضغط الاجتماعي في دول إفريقيا، حيث لا يزال للمد القومي والصراع الإثني دور كبير في تأجيج أزمات الدول ودفعها إلى الحروب الأهلية.
إنقاذ دول وأنظمة متعددة من الانهيار الشامل، الناتج عن الحروب الأهلية، أو صراعات أمراء الحرب، أو غيرها من أسباب الدم الإفريقي المسفوح، ولا شك أن حالة دولة مالي، سنة 2013، كانت أبرز مثال على ذلك، عندما اهتزت قوة الدولة المركزية، أمام التمدد العسكري للجماعات المسلحة(8).
ولا شك أن كل هذه المكاسب تخدم فرنسا على مختلف الصعد، فبقاء أصدقائها في الحكم مكسب ثابت، ودعمها للأنظمة الهشة والمنهارة، أو إنقاذها للدول لن يحدث دون ثمن باهظ من استقلالها وهويتها، وثرواتها وأمنها وسيادتها التامة.
وقد رافق هذه المكاسب سلبيات متعددة، فلم تعد فرنسا لدى الأفارقة ذلك التقدمي المحرِّر، بل كشفت الأيام والأزمات أن فرنسا عامل أساسي في استقرار التخلف واستمرار الأزمات الإفريقية المستمرة، كما أن مهمة الإنقاذ التي اضطلعت بها فرنسا لصالح أنظمة هشة أو ديكتاتورية لم تكتمل، ولم تؤت أُكُلها، بل زادت الأنظمة الهشة تآكلًا، وأضافت مشكلات جديدة، بل ارتفع الصراخ ضد فرنسا من داخل القصور التي طالما تعلقت بفرنسا قلبًا فكريًّا وقالبًا سياسيًّا.
الاقتصادات الإفريقية تحت السطوة الفرنسية
بدون إفريقيا ستكون فرنسا دولة هامشية، تلك هي الحقيقة المؤلمة التي تتجنَّب فرنسا الوصول إليها، والتي عبَّر عنها بجلاء الرئيس الفرنسي الراحل، جاك شيراك، في لحظة نادرة من لحظات الصدق لدى الساسة الفرنسيين.
وليس في الأمر تهويل ولا مبالغة، ففرنسا التي تُصنَّف ضمن الدول الأولى في إنتاج الطاقة، تعتمد في هذا المورد الاقتصادي المهم على الثروات الإفريقية، وخصوصًا في النيجر.
ويتأسس التحكم الفرنسي في الاقتصادات الإفريقية على مركزيات استعمارية كبرى، من أبرزها:
منطقتا الفرنك الإفريقي: وهما المنطقة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا اللتان تأسستا سنة 1948 وأطلقتا العملة الإفريقية-الفرنسية CFA لتحقيق أهداف متعددة من بينها تسهيل وتسريع حركة التجارة بين إفريقيا والعالم، وتحديث وتطوير مستويات التحكم الفرنسي في الاقتصادات الإفريقية
لصالح أنظمة هشة أو ديكتاتورية لم تكتمل، ولم تؤت أُكُلها، بل زادت الأنظمة الهشة تآكلًا، وأضافت مشكلات جديدة، بل ارتفع الصراخ ضد فرنسا من داخل القصور التي طالما تعلقت بفرنسا قلبًا فكريًّا وقالبًا سياسيًّا.
الاقتصادات الإفريقية تحت السطوة الفرنسية
بدون إفريقيا ستكون فرنسا دولة هامشية، تلك هي الحقيقة المؤلمة التي تتجنَّب فرنسا الوصول إليها، والتي عبَّر عنها بجلاء الرئيس الفرنسي الراحل، جاك شيراك، في لحظة نادرة من لحظات الصدق لدى الساسة الفرنسيين.
وليس في الأمر تهويل ولا مبالغة، ففرنسا التي تُصنَّف ضمن الدول الأولى في إنتاج الطاقة، تعتمد في هذا المورد الاقتصادي المهم على الثروات الإفريقية، وخصوصًا في النيجر.
ويتأسس التحكم الفرنسي في الاقتصادات الإفريقية على مركزيات استعمارية كبرى، من أبرزها:
منطقتا الفرنك الإفريقي: وهما المنطقة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا اللتان تأسستا سنة 1948 وأطلقتا العملة الإفريقية-الفرنسية CFA لتحقيق أهداف متعددة من بينها تسهيل وتسريع حركة التجارة بين إفريقيا والعالم، وتحديث وتطوير مستويات التحكم الفرنسي في الاقتصادات الإفريقية، خصوصًا مع تنامي أشواق الحرية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية(9).
كما أن بنوك 15 دولة إفريقية تتبع باتفاقية شراكة مجحفة للبنك المركزي الفرنسي، الذي يحتفظ بودائع هذه البنوك، مقابل نسبة فوائد عالية؛ حيث تلزم فرنسا شركاءها الأفارقة بإيداع 50% من احتياطياتها من العملات الأجنبية لدى البنك المركزي الفرنسي، وبنسبة فائدة أقل مما تمنحه بقية المؤسسات النقدية، كما أن المركزي الفرنسي يتحكم أيضًا في حجم السحوبات المسموح بها، فلا يمكن لأي من المودعين الأفارقة تجاوز سقف 15% من الأصول المودعة، وهو ما يمنح فرنسا أرباحًا سنوية تناهز 500 مليار دولار، وفق ما تؤكده دراسات اقتصادية متعددة. وهكذا، فإن الأفارقة يدفعون لفرنسا الإتاوات الباهظة مقابل احتجازها لأموالهم وتربُّحها منها.
وإذا كانت هذه الاتفاقيات قد حققت للدول الإفريقية بعض الاستقرار النسبي لعملاتهم ومصارفهم المركزية، وربطتها بعملة ومؤسسات نقدية قوية، فإنها حدَّت من قدرتهم بشكل كبير على التصرف في أصولهم أو رسم سياساتهم النقدية انطلاقًا من واقعهم وطموحاتهم الخاصة، خصوصًا أن البنك المركزي الفرنسي عضو دائم في مجالس إدارة البنوك الإفريقية المشار إليها، وتملك حق النقض، كما تملك الحق في إعلان تخفيض العملة، ومن جانب واحد(10).
الاستنزاف المباشر للثروات: وإلى جانب التحكم في المصارف والسياسات النقدية لعدد من الدول الإفريقية، فإن فرنسا تستزف الثروات الإفريقية في وفاء تام لأسلوبها الذي بدأته مع الاستعمار، والذي وفَّر لها المواد الأولية المتعددة لتحريك اقتصادها الهش. وهكذا، فإن اليورانيوم في النيجر، والذهب في مالي، والمصادر الزراعية في السنغال والسمك والحديد الموريتانيين، كل ذلك كان نهبًا للفرنسيين طيلة سنوات ما قبل الاستقلال، وقيام الأنظمة الوطنية، وتحول هذا النهب بعد ذلك إلى مسار آخر عبر الشركات الفرنسية الكبرى التي واصلت نفس المشروع، وتعتبر شركة توتال أو آريفا أبرز ذراع دولية لنهب مصادر الطاقة، والتحكم في الآفاق النفطية والغازية في غرب ووسط إفريقيا.
وقد تحولت هذه الشركات إلى دول قائمة بذاتها داخل الدول الإفريقية، حيث تملك قوتها الخاصة، وتعمل تحت حماية القواعد الفرنسية، وتملك مطاراتها وشبكات اتصالها الخاصة، وتتحكم في راهن ومستقبل الأنظمة السياسية، وتقف بوضوح في وجه الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، وهو ما يعبِّر عنه وزير الطاقة الفرنسي السابق، بيير فوما، بقوله: "تستغرق الدورة بين اكتشاف النفط في منطقة ما وبداية إنتاجه نحو ثماني سنوات، والسماح بحدوث تغيرات في السلطة كل عام يضر بمصالح الطاقة الخاصة بنا، لذا فإننا نبحث دومًا عن الاستقرار"(11).
سوط الاتفاقيات المجحفة: أقامت فرنسا في مطلع خروجها الشكلي من إفريقيا اتفاقيات متعددة، مع الأنظمة الجديدة، منحتها مستوى عاليًا من التحكم في مجالات متعددة تشمل الأمن والدفاع والاقتصاد والتعليم والتنمية، وتشترك هذه الاتفاقيات في ميزتين أساسيتين، هما:
طول الأمد الزماني.
تحقيق مصالح فرنسا على سيادة وأمن وهوية البلدان الإفريقية.
وقد كان سعي بعض الأنظمة الإفريقية إلى مراجعة هذه الاتفاقيات سببًا أساسيًّا في تحرك فرنسا للإطاحة به، أو إغراقه في أزمات سياسية أو اجتماعية تعيده خاضعًا إلى الحضن الباريسي(12).
يشرح وزير الطاقة الفرنسي السابق، بيير فوما، رؤية فرنسا للاستقرار في إفريقيا، وهو ما وقع التنبيه عليه آنفًا(13).
ولتحقيق هذا الاستقرار لا تتوانى باريس في دعم وتوطيد أركان أنظمة ديكتاتورية في القارة، والوقوف الصارم في وجه الديمقراطيات الناشئة، ولا في تحويل الشركات العملاقة إلى أذرع أمنية تسيِّر جيوشًا من الجواسيس والعملاء وتحرسها كتائب من الجيش الفرنسي، في اعتداء صريح على السيادة والاقتصاد والثروة الإفريقية(14).
الاستلاب الحضاري: الفرنكفونية في خدمة النفوذ الفرنسي
يحتل الجانب الثقافي مساحة عالية من الرؤية الاستعمارية الفرنسية، بل هو الحمض النووي لفرنسا الكولونيالية، وترى فرنسا في الشأن الثقافي الطريق الذي مكَّن الفرنكفونية، وهي العقيدة الحضارية لفرنسا، من:
صناعة نخب الاستقلال: الذين تدرجت أغلبيتهم في النظام التعليمي الفرنسي، وكانوا النخبة المثقفة في مجتمعاتهم، وجرى تشكيل وجدانهم الثقافي والحضاري عبر مرتكزات الفرنكفونية، وهي اللائكية، كإطار فكري، والفرنسية لغة للتواصل والإبداع. وقد استمات هؤلاء في التمكين للفرنكفونية وتوطيد أركانها في غرب ووسط إفريقيا، وبشكل ماتت معه أو كادت تؤول إلى الانقراض الثقافات والهويات الإفريقية التقليدية.
وقد رافق هذا التمكين حرب شعواء على اللغة العربية التي ترى فيها فرنسا عدوًّا حضاريًّا لها، فحوصرت في مختلف بلدان إفريقيا، وخصوصًا البلدان ذات الأغلبية المسلمة والتاريخ الثقافي الاستعرابي الأصيل، كما هي الحال -على سبيل المثال- في موريتانيا والسنغال ومالي وتشاد والنيجر، وقد ارتكبت فرنسا جرائم حرب وعدوان ثقافي وحضاري وحشية شملت قتل العلماء وحرق المدارس والمكتبات ونهب مصادر الثقافة(15).
فرض الهوية الفرنكفونية وصياغة الوجدان الإفريقي عبر المرتكزات المشار إليها سابقًا: ولتحقيق ذلك، تحولت الفرنكفونية من عقيدة سياسية إلى هَمٍّ عالمي تقدمه فرنسا على أنه "إطار شامل للتعاون" ومن خلاله "تتبوَّأ فرنسا المرتبة الأولى في قائمة المساهمين في المنظمة الدولية للفرنكفونية والجهات التنفيذية للفرنكفونية، فهذا دليل على طبع الأولوية الذي يتميز به محور العمل هذا"(16).
لقد حققت الفرنكفونية لفرنسا مكاسب جمة، من بينها:
- توجيه الهوية والوجدان والرأي العام الإفريقي، وتحويل الفرنسية من لغة دخيلة إلى لسان وحيد للثقافة والتعليم والفكر والإعلام.
- صناعة حَوَل ثقافي تجاه فرنسا: حيث تتجه النخب الإفريقية في الغالب في مهاجرها التعليمية، ولجوءاتها السياسية والاقتصادية إلى فرنسا، باعتبارها الحضن الأقرب وجدانيًّا إلى إفريقيا.
- الربط التعسفي بين الفرنسية واللائكية: من خلال بروز النخب الفرنكفونية في صدارة عداوة الهوية الإسلامية لدول غرب إفريقيا، وسيرهم الدائم تحت المشروع الفرنكفوني، حتى وإن بدا مسلحًا بجيوب تبشيرية واضحة.
ورغم كل ما بذلت فرنسا من جهود وما أنفقت من أموال، فإن الفرنكفونية اليوم ليست بخير، ومؤشرات التراجع بارزة في أدائها، خصوصًا بعد أن برزت للعيان نتائجها الكارثية على المستعمرات الفرنسية، ومن أبرزها:
الانهيار الفظيع للمخرجات التعليمية في إفريقيا الفرنكفونية، التي تصنف ضمن أسوأ بلدان العالم في حصيلة التعليم.
التراجع المتواصل للغة الفرنسية عالميًّا، فلم تعد لغة الآداب والإبداع، كما لم تكن لغة العلم والابتكار؛ مما يعني أن المواهب والقدرات الإفريقية، لا تزال محجوبة عن العالمية، بفعل السجن الفرنكفوني الذي يحيط بها.
تنامي ظاهرة الاستعراب والثقافة الأنكلوساكسونية: في مختلف مناطق القارة، وهما منافسان قويان للفرنكفونية في مستويات صناعة الهوية وتطوير اقتصاديات المعرفة.
ورغم كل ذلك، فإن انسلاخ الفرنكفونية ولسانها الفرنسي من الوجدان والحياة الإفريقية مستبعد بل هو مستحيل، فقد تحولت الفرنسية منذ أمد طويل إلى "غنيمة حرب"، وفق تعبير الكاتب الجزائري، كاتب ياسين، وتحولت مع الزمن إلى لغة التعبير الوحيدة عند النخب الإفريقية، وحتى أولئك الذين يرجمون باريس كل يوم بكل مفردات الغضب لا يجدون غير الفرنسية للتعبير عن هذا الغضب المتصاعد.
كما أن الفرنسية تحولت أيضًا إلى سور اجتماعي يتمترس خلفه بعض السياسيين الأفارقة من أجل تحقيق مصالحهم وحماية هوياتهم الضيقة، معتبرين الفرنسية الضامن الوحيد للمحاصصة الثقافية والسياسية في البلدان ذات العرقيات المختلفة، وخصوصًا ذات الأغلبيات العربية، كما هي الحال في موريتانيا والجزائر، على سبيل المثال(17).
فرنسا والمنافسون الجدد على إفريقيا
لا تقتصر متاعب فرنسا في إفريقيا على الإخفاقات التي أنتجها التعاطي الاستعماري والاستنزاف المتواصل للاقتصادات والحرب الدائمة على الهويات والديمقراطيات الإفريقية، بل ينضاف إلى ذلك متاعب المنافسة الدولية الشرسة، والمتزايدة من أقطاب دولية تقليدية مثل الولايات المتحدة والصين، أو قوى دولية صاعدة مثل تركيا وروسيا.
وما من شك في أن حالة التكامل والتعاون التي ميَّزت المسارات الفرنسية والأميركية تجاه إفريقيا، قد انحدرت إلى مستوى من التعارض الواضح، خصوصًا خلال حقبة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الذي ركز على انكماش الولايات المتحدة على نفسها، وتخليصها مما يراه الأعباء الاقتصادية والأمنية في إفريقيا.
وقد أدى تقليص المعونات الاقتصادية الأميركية لإفريقيا، وسحب بعض القواعد العسكرية الأميركية من مناطق إفريقيا إلى تعرية الظهر الفرنسي أمام المصاعب الأمنية في فرنسا، وزاد من التكاليف الباهظة للوجود العسكري الفرنسي في مختلف مناطق القارة.
ولا يخفى أن التكامل النسبي بين الإرادتين، الفرنسية والأميركية، تجاه إفريقيا، ظل محكومًا بكثير من التنافس، ذي الأبعاد الأمنية والاقتصادية، وذلك جرَّاء التباين التأسيسي لرؤى النفوذ تجاه القارة؛ حيث كانت واشنطن حريصة دائمًا على تعزيز وجودها على الشواطئ الإفريقية، وتأمين الممرات البحرية التي يتدفق عبرها جزء كبير من الحركة التجارية العالمية، إضافة إلى التصدي المبكر لجيوب التهديدات الأمنية وحركات الإرهاب المتمددة في شرق وغرب ووسط إفريقيا.
وزيادة على ذلك، فإن الولايات المتحدة منافس قوي لفرنسا في الأسواق الإفريقية، وفي مختلف مجالات العلاقات الاقتصادية، وقد استطاعت أن تزيح فرنسا عن صدارة العلاقات الاقتصادية ذات الطابع العسكري مع دول المغرب المغربي بشكل خاص(18).
روسيا وتركيا في دائرة النفوذ الفرنسي
يمكن اعتبار روسيا وتركيا أشرس منافسي فرنسا في إفريقيا. وبالنسبة لتركيا، فإن إفريقيا منجم اقتصادي جديد، وسوق مهمة للاقتصاد التركي الصاعد، وميدان بالغ الأهمية من ميادين الصراع المستمر بين باريس وأنقرة، وتتعدد أسباب ومظاهر التنافس التركي-الفرنسي في إفريقيا، ومن أبرزها في نظرنا:
تباين الرهانات: حيث تعمل تركيا على تعزيز قوة الإسلام السياسي واستثمار المشتركات الحضارية بينها وبين عدد كبير من الدول الإفريقية، فيما ترى فرنسا في هذه الرهانات التركية بالذات خطرًا أساسيًّا عليها وعلى عقيدتها السياسية تجاه إفريقيا الفرنكفونية.
إن الأمر باختصار هو أن تركيا ترى في المدِّ الإسلامي في إفريقيا سندًا قويًّا لها في مشروعها التمددي في القارة، بينما يعبِّر ماكرون بصراحة عن المخاوف الفرنسية من هذا المد الصاعد: "لحدِّ الساعة لا يوجد حزب مؤثِّر محسوب على الإخوان المسلمين في إفريقيا جنوب الصحراء، لكن الأمور بإمكانها أن تتطور"، وذلك وفق ما ورد في كتاب Le piège africain de Macron، ويبشر الكتاب نفسه بضرورة تبني وتطوير الأجيال الجديدة من الشباب العلماني المحب لفرنسا في منطقة غرب إفريقيا، والتي يجري رصدها عن طريق الرئاسة الفرنسية والسفارات ومركز التحليل والتوقع الاستراتيجي التابع لوزارة الخارجية، "إذا أخفقنا في هذا فإن الأئمة من أمثال محمود ديكو سيحتكرون المشهد السياسي"(19).
وتتعدد المداخل التركية إلى إفريقيا في هذا المجال بين التعاون الدبلوماسي، والعمل الخيري الذي تمارسه المنظمات التركية المتعددة، وكذا التعليم وتوفير آلاف المنح للطلاب الأفارقة. ويُلاحَظ بوضوح تزايد تشييد تركيا للمساجد والمدارس والمنشآت الخيرية في دول إفريقيا، وهو ما يضفي على أدائها بُعدًا أخلاقيًّا وقيميًّا يتناغم بقوة مع المشاعر الإسلامية لملايين الأفارقة، وخصوصًا الأجيال الصاعدة منهم.
التنافس على منطقة المعابر البحرية: حيث تعمل تركيا بشكل حثيث على تسوير مصالحها في منطقة المتوسط، ومنطقة البحر الأحمر. ويُبرز الدور التركي في الصومال وفي ليبيا مستوى الاهتمام العالي الذي توليه أنقرة للقارة الإفريقية، والذي مكَّنها من أن تتحول في سنوات قليلة إلى فاعل أساسي بإمكانه تعديل المسارات وفرض الأمر الواقع في أكثر مناطق الصراع التهابًا، كما هي الحال في ليبيا، وكذا الصومال.
وقد مكَّن هذا الحضور أنقرة من وضع اليد على مصادر هائلة للنفط والغاز، والتحول إلى شريك فعال وثابت للأنظمة المتناغمة معها.
كما أن توجه تركيا نحو النيجر، سيمثل هو الآخر تحديًا لفرنسا، خصوصا في ظل الآفاق التي تعد بها تركيا لإحداث نهضة اقتصادية وتطوير نوعي في مجالات الطاقة والزراعة في المنطقة.
الحضور التجاري الفعال: حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا والدول الإفريقية، خلال العام 2020، حوالي 186 مليار دولار، وفق بيان صادر عن هيئة الإحصاء التركية؛ حيث بلغت صادرات تركيا إلى بلدان القارة 126.7 مليار دولار، مقابل استيراد ما قيمته 59.8 مليار دولار(20).
موسكو وباريس: الصراع العنيف على أمن وثروات إفريقيا
تُظهر أزمة مرتزقة فاغنر في مالي عمق الصراع والتأزم في علاقات موسكو وباريس؛ حيث تعارض هذه الأخيرة بقوة ووضوح نشر قوات روسية في مالي، بينما تصرُّ باماكو، ومن ورائها موسكو، على هذا الوجود الذي سيعزز النفوذ الروسي في الساحل، وفي إفريقيا بشكل عام، ويربط الوجود العسكري الروسي في تشاد وليبيا بحلقة الساحل، ويمد أيادي الروس أكثر إلى مناطق المعادن والثروات الهائلة في مالي والساحل بشكل عام.
وما من شك في أن الاهتمام الروسي بإفريقيا قد تسارع وازداد خلال العشرية المنصرمة، وقد عبرت أجزاء كبيرة من هذا الاهتمام على لهب أزمات الربيع في سوريا وليبيا بشكل خاص؛ حيث أصبحت روسيا لاعبًا أساسيًّا في الشرق الأوسط وشمال ووسط إفريقيا.
ولا تُخفي فرنسا امتعاضها الشديد من الدور الروسي في إفريقيا، بل ترى فيه تأجيجًا مستمرًّا للمشاعر العدائية تجاه باريس، وفق تعبير الرئيس الفرنسي، ماكرون(21).
ورغم تنوع المداخل الروسية إلى إفريقيا سياسيًّا واقتصاديًّا، فإن الملف الأمني والعسكري يبدو الرسول الروسي الأكثر قرعًا للأبواب الإفريقية؛ حيث استطاعت قوات فاغنر الروسية غير الرسمية إبرام حوالي 30 اتفاقًا وتعاونًا أمنيًّا مع جيوش إفريقية متعددة، كما أن روسيا تستحوذ على 39% من الصادرات الدولية من السلاح تجاه إفريقيا(22).
ويبرز الصراع الروسي-الفرنسي في إفريقيا بقوة في ليبيا ووسط إفريقيا؛ حيث انحازت موسكو إلى خصوم باريس، كما أن دعمها القوي للانقلاب العسكري في مالي، قد أضاف عامل تأزيم قويًّا إلى وجود فرنسا في الساحل.
وما من شك في أن الوجود الروسي في إفريقيا بشكل عام مرشح لمزيد من التمدد، وأن قوات فاغنر ستتحول مع الزمن إلى عنصر مستقر وفعال في المشهد الأمني الإفريقي، حتى وإن أصرَّت فرنسا على اعتبارها عامل توتر وإثارة للنزاعات العرقية في القارة الملتهبة(23).
آفاق النفوذ ومستقبل العلاقة بين باريس وإفريقيا
من المستبعد أو الحالم إلى درجة كبيرة اعتبار النفوذ الفرنسي في مرحلة ضعف أو انهيار لأسباب متعددة، منها:
- مدى التغلغل والنفوذ الفرنسي في إفريقيا، والذي يستند على أكثر من قرن ونصف من الاستعمار المباشر وغير المباشر، والتدخل العنيف والتحكم المسيطر في مختلف مفاصل الحكم وتفاصيل الحياة في إفريقيا.
- خوف الأنظمة الإفريقية من فرنسا: حيث إن هذه الأنظمة هي أكثر من يعرف خطورة الدور الفرنسي، وما تملكه باريس من أوراق ضغط وعوامل تأزيم لم تترد في الماضي في استخدامها ولن تتورع في المستقبل عن تحريكها؛ مما يعني أن الأنظمة الإفريقية بشكل عام مرغمة على "تسيير المخاوف" في إطار علاقتها مع فرنسا.
- عمق الولاء الثقافي لإفريقيا في النخب العسكرية والسياسية والمالية في إفريقيا، فلا تزال باريس لدى كثير من الأفارقة نموذجا يحتذى؛ حيث يمكن أن نجزم أن أغلبية النخب المجتمعية في إفريقيا الفرنكفونية مصابة بحول ثقافي تجاه فرنسا، خصوصًا أن فرنسا هي جزء من خارطة الوعي والوجدان وتدبير المجتمع في إفريقيا، سواء عبر الأنظمة السياسية والنظم التعليمية والمسارات الثقافية، والمؤسسات الخيرية والكنائس والروافد والشركات القابضة.
ورغم كل ذلك، فإن هذا النفوذ يتآكل، ويتعرض للتوتر والتقلص شيئًا فشيئًا لأسباب متعددة، منها:
إخفاق فرنسا في تدبير علاقة إيجابية مع إفريقيا؛ حيث كان الاستعلاء السياسي والاستنزاف الاقتصادي والاستلاب الحضاري أبرز مقومات النظرة الفرنسية تجاه إفريقيا.
دور ثورة الاتصالات ووسائط التواصل الاجتماعي في تأجيج مشاعر الغضب تجاه فرنسا، وإيجاد نوافذ جديدة للتعبير عن هذا الغضب بعيدًا عن الإعلام الرسمي الذي يتحدث غالبًا بلغة ووجدان فرنسي.
شراسة المنافسة الدولية في إفريقيا، خصوصًا مع دخول لاعبين جدد، لا يملكون مشتركات كثيرة مع فرنسا بل يعتبرون نفوذها عقبة أمام تمددهم في إفريقيا.
تزايد الإخفاقات الأمنية لفرنسا في إفريقيا وتمدد دائرة الإرهاب، الذي يستنزف الجيش الفرنسي، ويهدد حلفاءها التقليديين، بل يدفعهم إلى طلب العون من خارج الحضن الفرنسي.
الرحيل المتواصل لأركان الصداقة الفرنسية-الإفريقية؛ حيث غادر الحكم خلال العشرية المنصرمة عدد من أصدقاء فرنسا، من رؤساء أطاحت بهم ثورات أو انقلابات شعبية.
ولا شك أن فرنسا ملزمة بانتهاج سياسة جديدة تجاه إفريقيا، تعتمد الشراكة والتعاون والتكامل، ولكن الوصول إلى هذه الحالة لا يزال بعيد المنال، خصوصًا أن النخبة الفرنسية المسيطرة محكومة بيوميات المشهد الانتخابي وتوجهات الناخب الفرنسي الذي يوغل في العنصرية والسير باتجاه اليمين المتطرف، وفرنسا لا تحتاج إلى مزيد من التطرف في علاقتها مع إفريقيا.