عرض لكتاب: الوزير: تجربة وزير مدني في حكم عسكري

إعداد الحافظ ولد الغابد

 

صدرت الطبعة الأولى من كتاب: الوزير: "تجربة وزير مدني في حكم عسكري" لمؤلفه الباحث ووزير الإعلام محمد محمود ولد ودادي ويعرض ولد ودادي تجربته كسفير لموريتانيا في عدة عواصم عربية لمدة اثني عشر سنة والمستشار بالرئاسة المؤتمن على العديد من ملفات الأمن القومي الموريتاني في العهدين المدني والعسكري وأحد الساسة والمثقفين الموريتانيين البارزين في المشهد الثقافي والفكري، الموريتاني وقد زود المكتبة الموريتانية بترجمته لعدة مؤلفات للباحث الفرنسي بول مارتي الذي ألف العديد من الكتب التي رصدت جوانب من تاريخ الحياة الثقافية والاجتماعية والعلائق السياسية ما بين القبائل الموريتانية خصوصا في المناطق الشرقية .

  ويقدم ولد ودادي هذه المرة للمكتبة الموريتانية كتابا غنيا عن تجربته كوزير في حكومة العهد السكري محللا بعمق البنية الإدارية للسلطة السياسية وكاشفا النقاب عن خفايا وخبايا البلاط الرئاسي الذي عرف تحولات عميقة خلال الحكم العسكري في السنوات الأولى من حكم الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع تختلف عما كان عليه الحال خلال الحكم المدني (1960-1978.

وتقتصر الفترة التي يقدمها "الوزير" ولد ودادي في كتابه على سنوات 1985-1986-1987) ويحلل الكاتب الوزير، في فصل تمهيدي قصير دواعي الكتابة في هذا المجال، معتبرا أن الكتاب ليس مذكرات سياسية ولكنه "وصف مختصر لما شاهدتُه وتعاملت معه خلال الفترة المعنية، ونقلٌ لبعض أحداثها باستثناء قضايا حساسة تتصل بجوهر مصلحة موريتانيا ومستقبلها وعلاقاتها الإقليمية ارتأيت أن الوقت لم يحن بعد للتعرض لها".

  والكتابة في الموضوع من ناحية أخرى "تعبير عن الهموم التي أحملها وبعض الآراء التي عبرت عنها جملة أو تفصيلا في المناسبات الرسمية وفي مجلس الوزراء، راجيا أن تكون إسهاما في توضيح الرؤية عن فترة من تاريخ موريتانيا الحديثة، ودعوة لرجال سبقونا وتحملوا مسئوليات أكبر منا ولفترات أطول ولغيرهم من مثقفينا خاصة من جيل الاستقلال، لكتابة مذكراتهم السياسية .. على غرار ما سبق إليه مؤسس الدولة الرئيس المختار ولد داداه من تدوينِ ملخّصِ تجربته الثرية في كتابه المميز "موريتانيا على درب التحديات".

فصول الكتاب

يقدم المؤلف في هذا الكتاب خمسة عشر فصلا دون أن يعتمد مصطلح الفصل قبل عنوان الفصل أو القسم تبدأ بعنوان: 1- دخول الحكومة وتنتهي بالعقيد معاوية ابن الطايع وجاءت العناوين الأخرى على النحو التالي: 2- دخول الحكومة 3- الوزير 4- ظروف العمل والنشاط اليومي 5- وضع قطاعات الثقافة والإعلام والمواصلات 6-الإعلام واجهة الدولة 7- نحن والإصلاح 8- العلاقة مع الديوان الرئاسي 9- مجتمع نواكشوط وبيئته 10- مدرسة التملق 11- القبيلة وجماعات الضغط والرأي العام 12-  المهمات الخارجية 13- الخروج من الحكومة 14- مشكلة نظام الحكم والبدائل المتاحة 15- العقيد معاوية بن الطايع.

واحتوى الكتاب ملاحق ووثائق هامة احتلت ثلث صفحات الكتاب (مئة من ثلاث مئة صفحة) من أهمها قائمة بأسماء الوزراء في العهدين المدني والعسكري وقد بلغ عدد وزراء العهد المدني حوالي 80وزير بينما وصل وزراء العهد العسكري حوالي 82 وزير كما احتوت الملاحق وثائق حول السياسة الإعلامية ورسائل وجهها الوزير ولد ودادي للرئيس وتقارير وتعليمات صادرة لعلاج مشكلات أو توضيح سياسات وإجراءات وتدابير اقتضتها سياسة الوزير.

صعوبات العمل الوزاري

يقدم المؤلف صعوبات العمل الوزاري التي عايشها في ثنايا الكتاب متناثرة هنا وهناك ويشرح ظروف العمل والنشاط اليومي قائلا: إن الظروف التي يعمل فيها الوزراء تعد بالغة الصعوبة مقارنة بالسفراء والمديرين العامين فإمكانياتهم منعدمة والمنتظر منهم كثير وقد طلب إلي أحد الزملاء يوما أن أقارن بين وضع الوزير والسفير فأجبته ما زحا: "السفير يمثل رئيس الدولة وسيارته تحمل باستمرار علما ويجلس خلف السائق الذي يفتح له الباب ويدعى صاحب السعادة وهو في الخارج بعيدا عن جو نواكشوط الموبوء بالكيد والنميمة أما الوزير فهو خادم للجميع سيارته بالية ويجلس بجنب السائق ويدعى الزميل CAMARADE ".

  ويصف حالة الآليات والموجودات بالوزارة قائلا: "وفي المكتب لا توجد وسائل معقولة للعمل فالسكرتارية منعدمة في أغلب الأحيان حتى أنني في وزارة الإعلام – وهي من أقدم القطاعات – لم أجد راقنا واحدا على الآلة الكاتبة العربية كما لم أجد الآلة نفسها وقد اضطررنا إلى تلفيق طاقم من الهيئات التابعة للوزارة. والمتابعة في السكرتارية منعدمة بسبب سوء التنظيم الإداري وندرة الملفات المحفوظة.

ولا يوجد أثر لأي جهاز تلفوني حديث أو لآلة تسهل العمل فنحن ما نزال في هذا المجال في عصر الخمسينات وقد كنت أضطر إلى كتابة الرسائل والتعليمات والأوامر بنفسي.

ومن أصعب التحديات التي واجهتها عند استقبال الخريجين والوجهاء الحصول على أعمال للعاطلين إذ كنت أرفض الضغط على المديرين التابعيين للوزارة مكتفيا بعرض الأمر عليهم في رسالة تضم أسماء واختصاصات المرشحين. ومن الذين تمكنت من حل مشكلتهم مجموعة متخرجة من إحدى الدول العربية رفضتها مديرية البريد لأنها مستعربة وهذا السلوك الذي اتبعته سبب الكثير من التذمر لدى الأقارب والأصدقاء الذين يرون أن على الوزراء اكتتاب الأقارب وتوزيع العطايا والكثير منهم يعلق الآمال على وصول ابن العام إلى موقع يمكنه من قضاء حوائجه".

ويضيف: "واعترف أن أكبر خسارة لي وأنا في الوزارة قطع الصلة مع العديد من أصدقائي الكثيرين وأسرتي الصغيرة التي لم أكن اجتمع بها إلا وقت تناول طعام الإفطار وقد تعثرت دراسة الأطفال بسبب مشاغلي الحكومية كما انشغلت كليا عن نشاطي العادي في الكتابة".

واستعرض المؤلف بإسهاب تجربة الوزير في العهد العسكري التي تميزت بصعوبات بالغة: "وينبغي الاعتراف بأن العهود العسكرية تميزت بالشك المفرط في ولاء الوزراء وعلاقاتهم بغيرهم ومع الدبلوماسيين الأجانب ويجد البعض العذر في ذلك عند العودة بالأذهان إلى ممارسات مثل التي كان يقوم بها علنا وبطريقة مبتذلة بعض الدبلوماسيين والأجانب مع بعض رجال الدولة والمواطنين المحسوبين على تنظيمات تابعة للخارج والتي عرفت بالممارسات "الرُّفيْعية". (نسبة إلى سفير عراقي سابق في نواكشوط بداية الثمانينيات كما بين المؤلف في الهامش.

مواقف طريفة

  كما يستعرض تجربته الشخصية مع الديوان الرئاسي الذي كان من المفترض أن ينهض ببعض المهام البروتوكولية يقول: "فقد كان مقررا أن يزورنا أحد الضيوف واتخذنا الاستعدادات الضرورية على مستوى الوزارة وكلفنا فريقا من الموظفين بالسهر على قضية السكن والمعاش والمتابعة يوميا مع المراسم والديوان إلا أن هذا الأخير رفض تدخلنا في موضوع السيارات. وقد أكد لي رئيس الفريق أن كل شيء جاهز – بعد أن وفرنا من مصروفات التسيير في الوزارة على ضآلتها- النواقص الموجودة في الفيلا المخصصة لاستقبال الضيف من فرش وبطانيات ومناشف وأدوات صحية ثم توجهنا إلى المطار لاستقباله وبعد الوصول خرجنا إلى الموكب المهيأ للانطلاق فوجدنا أن السيارة المخصصة للوزير كانت عتيقة بشكل لافت للنظر بعدما قيل لنا إنها من الدفعة الجديدة التي بدأت تستعمل لاستقبال كبار الزوار، فركبناها وأنا في خوف من أن تتوقف، محاولا تطويل الحدث مع الوزير الزائر لشغله عن الانتباه لوضعها لكن بعد فترة بدأت أصوات مزعجة تصدر منها ومعها دخان العادم ثم وجهت نظري إلى مؤشر البنزين الذي كان يوشك على النفاد .. واستمر السير وأنا أخشى توقف السيارة في الطريق العام إلى أن وصلنا لله الحمد".

وشهد العهد العسكري السابق لحركة 12-12- 1984 أخطاء أضرت بعلاقات موريتانيا مع العديد من الدولن فكم مرة سلّم مبعوث موريتاني رسالة إلى رئيس ليست موجهة إليه أو كُتب اسم آخر على غلاف رسالة موجهة إلى رئيس دولة أخرى، أو تضمنت أو راق اعتماد السفراء أسماء غير صحيحة للقادة المعتمدين لديهم؛ ففي تونس مثلا تسلم الرئيس الحبيب بورقيبة رسالة يحملها وزير موريتاني، وعندما فتحها وجد أنها موجهة إلى الرئيس الشاذلي بن جديد، فما كان منه إلا أن صاح بأعلى صوته "أنا المجاهد الأكبر بورقيبة محرر تونس ورئيسها مدى الحياة، فكيف ألتبس مع العسكر"؟ وقد جرت المقابلة بحضور رئيس الوزراء التونسي ومدير ديوان الرئيس والسفير الموريتاني وآخرين.

وتعني وقائع الحادثة أن الرئيس الشاذلي بن جديد تسلم رسالة الرئيس بورقيبة لأن المبعوث مر بالجزائر قبل تونس؛ ومرة صرح أحد المبعوثين في الدوحة أنه"يحمل رسالة من الرئيس الموريتاني إلى الشيخ عيسى بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر" بينما هو الشيخ خليفة أما الشيخ عيسى بن خليفة فهو أمير دولة البحرين؛ وفي ظروف الديوان الحالية يمكن لمثل هذه الهفوات أن تتكرر".

مجتمع نواكشوط ودور القبيلة

 يستعرض الكاتب نماذج مختلفة للحياة الجديدة في العاصمة الموريتانية نواكشوط خلال مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، فيستعرض في البداية كيف سكن نواكشوط وهي قرية صغيرة ذات مجتمع غير متجانس في العام 1960 فكانت مدينة جميلة نظيفة وغير مكتظة، ولم يكن بها قبل سنة 1964 سجن باستثناء معتقل صغير يقع بجانب حاكم المقاطعة.

ويقارن ولد ودادي حياة سكان نواكشوط منتصف الثمانينيات مع الحياة فيها منتصف الستينيات، حيث كانت تعرف حراكا ثقافيا وسمَرا ليليا ممتعا، مع جلسات الشاي الأسرية المصحوبة بالموسيقى الهادئة والأدب الرفيع، ويستدرك على المدينة في الفترة المتأخرة صخبها وتلوثها وارتفاع معدلات الجريمة والشعوذة والاعتقادات الفاسدة، مع غياب تام للوعظ والتوجيه، وسيطرة الجدل ما بين الأشاعرة والمتصوفة والسلفية، وهي خلافات تتدخل فيها الهيئات الأجنبية وحتى الدبلوماسية، دون أن تتصدى لذلك الجهات الرسمية المعنية، مما قد يلحق الضرر بعلاقات البلاد ببعض الدول الشقيقة التي لا تريد لموريتانيا إلا الخير والاستقرار، ولكنها تجهل تصرفات بعض ممثليها في نواكشوط.

ويصف ولد ودادي ظاهرة التملق التي كانت سائدة في المجتمع الموريتاني وتفاقمت في الفترة الأخيرة ويقول: "انطلاقا من رفض الجمهور لبوادر النفاق السياسي عبر الإذاعة الوطنية، كان أول قرارين اتخذتُهما عند ما عينت مديرا للإذاعة في فبراي   1970 يلغيان مجموعة (أشوار) -أناشيد – بالحسانية كانت تمجد الرئيس المختار ولد داداه، وبرنامجا يوميا قصيرا بعنوان "اغْنَ حزب الشعب" يستهله صاحبه وهو شاعر ووجيه نافذ بقوله: "حزب الشعب ألا من الله" وهو تعبير صالح لأن يكون من المدح والذم؛ وقد أقرت اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب (الذي تتبعه وسائل الإعلام) هذين الإجراءين مما يبرهن على أن القيادة السياسية والرئيس المختار خاصة، لم يكن يحبذ هذه الأساليب، بل يمجها، كما يعرف ذلك مساعدوه". ويسرد المؤلف حكايات وتجارب عن التملق وتأثيره السيئ على الإدارة الحكومية، حيث غابت الروح النقدية والتقييم الموضوعي للأداء.

  ويستعرض المؤلف في الفصل الأخير الصداقة الشخصية التي جمعته بالعقيد معاوية ولد سيد أحمد الطايع، مبرزا جديته وتقشفه وعزوفه عن جمع المال، محللا الطريقة التي وصل بها إلى السلطة، ومعتبرا أن العقيد ولد الطايع كان ذا طموح ورأي سياسي حصيف، مبرزا ملاحظات سلبية تتلخص في سلوكه العسكري الجاف الذي ظل ملازما له طوال سنوات ممارسته للسلطة.

ملاحظات ختامية

1-  يؤخذ على الكتاب إغفاله للكثير من الأسماء التي وردت بشأنها ملاحظات سلبية في ثنايا الحديث وسياقاته، أراد المؤلف على ما يبدوا أن يتجنب بها نقد الكثيرين أو ردودهم، لكن من وجهة النظر التاريخية والتوثيقية، فستظل هذه من أهم النواقص المسجلة على الكتاب.

2-  لم يشأ المؤلف أن يخوض كثيرا في تحليل بعض الأحداث التاريخية التي عاصرها، والخروج بترجيح لبعض وجهات النظر التي تعددت الروايات حولها، بل اكتفى بالإشارة أحيانا لرؤيته للحدث دون إطالة في التفاصيل.

3-  يعتبر الكتاب مرجعا مهما لأنه أعطى صورة عن اجتماعات مجلس الوزراء وأنماط العمل الإداري وتعاطي النخبة السياسية مع الشأن السياسي والعام من جهة، كما هو وثيقة هامة لدراسة أنماط السلوك السياسي في الدولة والمجتمع الموريتانيين.