الحَمَّالْ.. (قصة قصيرة)
.. بعد يومِ عملٍ شاقٍّ أمضاهُ في حملِ الأمْتِعَةِ من مكانٍ لآخرَ ، داخل سوقٍ مُزدَحِمٍ بالباعَةِ و المُشْتَرِينَ ، عاد إلى بيتِهِ حيْثُ راحَتُهُ الْجَسَدِيَّةِ، غيرَ أنَّ ما حصل معه اليومَ - أثناء عمله - كدّرَ مِزَاجَهُ، وَوَقَفَ عَائِقاً دُونَ رَاحَتِهِ النفسيةِ!..
بخطواتٍ متعثِّرةٍ، مُرتبكةٍ..
دخل بيتَهُ المُتَوَاضِعْ..
البيتُ الذي يستأجرُهُ..
دخلَ مُتَسَلِّلاً كمَنْ لا يُريدُ أنْ يَرَاهُ أحدٌ.. كان يحملُ في يَدِهِ كِيساً مِنَ السكَاكِرِ والحَلَوِياتِ..
فَتَحَ البابَ بحَذَرٍ، غَيرَ أنَّ أطْفَالَهُ الذين يَنْتَظِرُونَهُ منذُ وقتٍ، سَمِعُوا خَفْقَ نعليْه وهو يدخُلُ !..
هَرْوَلُوا نَحْوَهُ...، استقبلوهُ بِضَحَكَاتِهِمْ الْبَرِيئَةِ، فَرسَمَ على وَجْهِهِ ابتسامةً عريضةً لا يَخْفَى عَلَى الْمُتَمَعِّنِ مَا تَحْتَهَا مِنْ همٍّ دَفِينٍ !..
جلسَ بسرعَةٍ، و بدأ يُوزِّعُ عليهم السكَاكِرَ و الحَلَوِيَّاتِ، ثُمَّ اتَّجَهَ إلى غُرفةٍ مُواليةٍ؛ حيثُ الزَّوجَةُ مشغولةٌ بترتيبِ بعضِ الأشياء في المَنْزِل..
سَلَّمَ عَلَيها بِذَاتِ الابْتِسَامَةِ الْمُستَعَارَةِ المُفتعَلة !..
واصلَ طريقَهُ إلى غرفةٍ أُخرى لتغييرِ مَلابِسهِ، بَيْنَماَ شرعت هي في تحضيرِ الشَّرَابِ وَ الشَّايِ لَهُ، قبل أن يخرج..
خَرج.. وجَلسَ يُراقبُ فرحَ أطفالِهِ وسُرُورَهُم بالهَدَاياَ، وفي تلك الأثناء دَخَلَتْ الزوجةُ تَحْمِلُ في يدها كُوباً ليشربَ، وفي الأُخرى كأساً من الشَّايِ..، صوّبَ انتباهَهُ نحوَهَا، وبلطفٍ أَخَذَ ما في يَدَيْهَا..، بدأ يستفسرها عن حال البيْتِ ؟ وعنْ مُجرياتِ اليوم خلالَ غِيَابِهِ؟ فأجابته أن كلَّ شيء على ما يُرام، وهي إنما تغتنمُ الفرصة لتُخفِّفَ بعضَ ما يرىَ، وتنزحَ عن قلبِهِ هَمَّهُ الذي أثقلَهُ، وارتسمَ على وجههِ، رغم أنها كانت تنتظر عودتَه لتُفضي إليهِ بخَبَرِ مَالِكِ المنزل، الذي أمرهم بإخلائِهِ في غضون أيام !..لكنهاَ لم تخبره بذلك، بل لم تسأَلْهُ كيف كان يومُه؛ مخافةَ أنْ تُذكّرَهُ بشيءٍ قد تناسَاهُ عِنْدَ رُؤْيَتِه فَرَحَ الأطفال !..
كانتْ تنظرُ إليهِ وهي تخفي الخبر، لكنها فضلتْ عدمَ البوحِ بِهِ..
واصلتْ تحضير الشاي، والتفكيرُ يذهبُ بها أيَّ مذهبٍ، هل تخبرُهُ بما حصلَ معها اليومِ؟
لا، لا يمكنُ ذلك فمِزاجُهُ لا يسمحُ، يكفيهِ ما أهمَّهُ، واستغرقَ تفكيره.. تقولُ في نفسها..
تسطّح (ارتمى) عَلَى الفراش و بدأ يفكرُ..
كيف سيدبر عملا يؤمّن منه قوت أسرته ومصاريفها؟
صاحبُ المحلِّ الذي كَانَ يعملُ معَهُ حمَّالاً للأمتعةِ، ويوزعها على المشترينِ، استغنى عن خِدماتِهِ!..
وفي لحظةٍ..
عمّ الصمت أرجاءَ البيتِ، إلا صَوْتُ الأطفالِ وهُمْ يلعبون بعفويةٍ وبراءة..
أما الأبُ والأمُّ فكانَ كل منهما يفكر فيما حصل في صمتٍ مطبق..
قطعت الزوجة الصمتَ و بدأت تفاتحُ زوجهاَ فِي مواضِيعُ مختلفةَ لاعلاقة لها بأمور المنزلِ و مشاكِله...، عن مواقفِ الأطفال المضحكة، محاوِلةً أن تُنسيَّهُ القَلِيلَ مِنَ الضّيق الذي يشعرُ به..
كَانَ يتصنع الفرح، يتظاهرُ باهتمامٍ مفتعل، لكن تفكيرهُ كان مشغولاً كليا بمشكلتِهِ التي طوقته! ..
ظلت تتبادل معه أطراف الحديث في جو عائلي جميلٍ، حتى أنهت الشَّاي..
.. بعد ساعة؛ خيّم الصمتُ، على أرجاء البيت مجدداً..
الأطفالُ هذه المرّةُ تمكن منهم النوم !..
هنا بدأت تسأله - في هدوء - عن سبب الحزن الذي يغشى عينيه؟..
وتستفسر عما حدث معه، وجعله حزيناً محسورا ؟! فأخبرها عن قصة صاحب المحلّ الذي يعمل فيه..
قالت تسليمٍ، وهدوء:
- هذا أمر بسيط لايستحق كل هذا !..
فالله الذي أعطى ذلك العمل بلا حولٍ ولا قوة.. سيُعطي آخر بلُطفٍ خفيّ؛
فهو - تبارك اسمُه - لايفعل بعبده المؤمن إلا خيراً.. ومع العسر يقدِّرُ - بفضلِه - يُسرا !..
ولمّا أحسّت منه الانشراحَ وآنسَت من جانبه اطمئناناً لبَرد كلماتِها الشافية.. أخذَت تقصُّ عليهِ - في هدوء واسترخاء - ما قال لها صاحبُ البيت..
البيتُ الذي ربيا فيه أطفالهما، وعاشا بساطة الحياة، وأجراهُ منذ سنين..
أخبرته الخبرَ وهي تؤمّل أن يستطيع معها وضعَ حلّ مُناسبٍ للمشكلتين...
تبادلا أطرافَ حديث طويل عن المشكلتين وتشاورا حول سبل حلهما..
بقلم/ سهام الخرشي