العمى بين طائفتين .. بقلم أحمد سلمان
تصاب المُجتمعات الفتية بأمراض كثيرة توقفها عن طريق الرقي والتطور، وتبعدها عن الجادة، وتتركها نهبا لقوى الشر، وتجبن بها عن ساحة الفعل والتأثير..
لكن مرضين اثنين أظنهما من أحطر هذه الأمراض وأشد تلك العلل فتكا، أحدهما الانطواء على الذات، والثاني الخوف منها واتهامها بالنقص والدونية، فالأول يمنعها من الانفتاح على الأمم الأخرى، ويسقيها من خمر تجميل الماضي والترضي عنه، فكل قديم هو مجد ناصع، مقدسٌ طاهر أبيض يسر الناظرين، ومن المعروف أن الأزمنة تتأثر سلبا وإيجابا بقدر نجاح إنسانها في تجاوز الابتلاء أو فشله فيه، وفهم حقيقة الخلافة والإعمار، والوعي بذلك كله، أو تنكب الطريق.
ويختلف نصيب كل أمة عن الأخرى، بقدر ما تتشعب مناحي الحياة، وتتعقد، وكل نفس بما كسبت رهينة، فلسنا - ونحن في حاضرنا اليوم- مسؤولين عن شر اقترفته أمم أخرى، ولا معنيين بمجدٍ صنعته، حسبنا من ذلك كله (من المحامد والمثالب) الاعتبار لدرك المعالي وتصحيح المسار، فنقتدي بالفعل الايجابي الخلاق، ونتجب مداخل الشر، هذا أولا، أما الناحية الأخرى التي ينبغي أن نستحضرها ونحن ننتشي بما فعله الأقدمون أنَّ هذا الذي نحمله في أيدينا من موروثهم إنما هو ناتج كدح وجد، ولولا ذلك لما كانت لهم قيمة، ولكانوا شر مذكور، وأسوء سالف لخالفٍ، ولو وعينا حقيقة الأمر، وقلبنا الأمور بعقل، ووعيناها حق الوعي، لما وقفنا لحظة للانتشاء حتى نقف قبل ذلك ساعات طويلة للخلق والإبداع تبعا لهم، حتى نترك للأجيال الخالفة شيئا يذكرونا به، وحتى نُؤدي واجباتنا، وما تقتضيه المسؤولية والتكليف، فالعقلاء يضعون لبنات ضمن الصرح، ويزيدون البناء تأسيسا وتنميقا وزخرفة حتى لا نُنتجاوز نحن، ونصبح حلقة مفرغة لم تضف شئيا للحياة البشرية، ولم تؤد مهمة أو تحمل هما، ذلك لا يليق بعاقل، ولا يتصور منه، ثم كيف تصح نسبة الخاملين للعاملين، ذلك نسبٌ مشكوك فيه، وصلة منقطعة، وإسنادٌ فيه وضَّاع..
أما المرض الثاني فهو الخوف من الذاتِ، والشكُ الذي أصاب أبناء هذه المجتمعات، في كل ما تمتلكه أممهم، فما لبثت عقدة الخوف من كل شيء له صلة بالتراث والقديم أن استحكمت وضربت بأذيالها على رواد العصرنة والتحديث، وتم بناءً على ذلك اعتبارالعقول المسملة عاجزة لا تبدع، ضعيفة يستحيل نهوضها إلا بالاستناد إلى الآخرين، حسبها أن تستورد وتقلد وتتذيل، وتُسَخِّرَ نَفْسَهَا لِذَلك؛ ابتداءً بالنظم القانونية إلى الأخلاق العامة، والقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وانتهاء بالأقل الرخيص والتافه الحقير.
إن ظاهرة التخلف التي أنشبت أنيابها في الأمة المسلمة، ثم ما أورثه الاستشراق من آراء وتصوراتٍ منفرة من التراث الإسلامي مشككة فيه، وما أعقبه من تحكم أنظمة العسكرة، وسوء التدبير، كل ذلك خلف نفرة من الذات وجاهزيةً لرميها بتهمة الإبقاء على التخلف.
هؤلاء داهيتهم الكبرى أنهم استصغروا عقولهم فأوقفوها عن الإبداع ولو على مثالٍ مما عند الآخرين، واتهموا ما ضيهم فلم يستفيدوا منه، بل الطامة الكبرى والداهية الدهياء أنهم اتهموه وهم على جهل به ومصارمة له، وحكموا عليه وهم أبعد الناس عنه، فجمعوا إلى التخوف والشعور بالدونية جريمة الكذب والجهل، وما شيء في الدنيا أقبح من ذلك ولا أسوء منزلة أو أنزل دركا.
فكم سمعتَ عن مزايد على التراث بضرورة مراجعته وهو لم يقرأ فيه كتابا واحدا، ولا قلب فيه ورقة، وإنما يردد ما قيل ثم يستهون التقول غير مبالٍ أصاب الحقيقة أم جانفها..!
صحيح أن التراث يحتاج إلى إعادة قراءة، وأنه يحمل الجيد والرديء، وفيه ما يصلح مثالا للبناء والاعتزاز، وما ليس كذلك، لكنَّ هذا كله يحتاج إلى قراءة عن قرب ومباشرة دون واسطة، أو قارئ مستعار، مع استعداد حقيقي للنقد الذي يسلك العدل سبيلا ومنهجا، وبذات معتزة غير مجاملة ولا مرهقة بالخوف والشكوك والاتهامات والصور المغلوطة.
هاتان الطائفتان فتحت على المجتمعات أبوابا لا تكاد تغلق، وأفضت بنا إلى صراع لا منتصر فيه بل الكل مغلوب، لأنه صراع صفري لا يتغيا الوصول إلى الحقيقة، ولا الخروج بنتيجة إلا نتيجة واحدة وهي دوامة من التهم والتهم المضادة.
إن الشعوب اليوم مطالبها الأولى تتجسد في العدالة الاجتماعية، والسياسة بالرشد، وهذه القيم كما وجدها الغرب في حضارة اليونان، بالإمكان وجودها في ما بين أيدينا من تراثنا، ولسنا مضطرين إلى استعادة حروب السابقين وبعثها من جديد، ولا حتى محاكمتهم أصابوا أم أخطأوا، (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).
وإن تعجب فعجب حالُ أمم تراثها عند الآخرين يحفظونه ويحافظون عليه، ويصنعون منه نهضتهم ويصححون به المعوج من قيمهم، أما نحن فما بايدينا غير الفخر حدَّ الانتفاخ والشعارات البراقة عن أمة كانت مباركة مرضية لا تُخطأ، لكنَّ تلك الشعارات لا تُوَفَّقُ بالقدر الذي تستحيل به واقعا مُعاشاً، نتعامل بها بيننا أولا قبل أن نصدِّرها للآخرين.
ضحايا الافتتان هؤلاء لا يختلفون عن ضحايا التبعية والاستيراد، الكل غريب على ذاته، بعيد عن ما يبشر به، ويدعو إليه، لأنه لم يفهم أن سلوكا أو نمط حياةٍ لا تتبناهُ أنت في واقعك لا قيمة له، ولو رفعت به ألف صوت، وجيرت له وسائل الإعلام وروَّجْتَ له في كل مَحفلٍ، فالحياة خلقت لنحياها والقيم لنتعايش بها، ونمشي بها بين الناس مطمئنين، أما غير ذلك فهو محض أعراض للأمراض النفسية، والشعور بالضياع.