في ظلال الحروف …الشاعر والروائي المختار السالم

أعتقدُ أنَّني لا أصلحُ خبيراً بيئياً برغم رصيدي الهائل من حبّي للبيئة؛ شجراً وحجراً؛ وردا وزهرا وضفافا وتلالا ووهادا وأودية وأدغالاً وكدى وجبالا وسباخا... سفوحا وأخاديدَ... أي البيئة التي تُؤثِّـثِها منظومة صوتية متناسقة بتناقضاتها من زخات المطر إلى ما نشر الغزالُ من مسكٍ وبثت الأعشابُ من أريج، إلى أغاني الطيور وصداح الصُّقُور فإلى ما علّم السبع والضبعُ وما أحدثَ الجرادُ من خَـتْـرَشَةٍ. 
ثم إلى غرائب بتلك الكُهوف والملاذات المغتربةِ عن ذاتها بذاتها. 
إنني أعشق صوتَ كباشِ الوُعُولِ وأعدُّهُ مَقاماً عالياً في المعزوف البيئي المدهش، كما هو صوت النار بالأخشابِ، وعواء المفترساتِ، وحفيفِ الأوراق ورقرقة الغدران.. وبقية المنظومة الصوتية البديعةِ فكيف بها وهي صورٌ مرئية حية تسلبُ اللبابَ بالدهشةِ والغرائبية والسِّحر.
نعم. أعتقد أنني لا أصلح خبيراً بيئياً، ولكنني أعلم أنَّ الشاعر هو "أول مناضل بيئي في التاريخ".. وحاز هذه الميزة عندما أخذ يمدح الناس بخصائصِ الحجر وصفات الورد وعذوبة الماء وطيب العود وبرد الظلال وحتى بشرر النار "غبرائيةً"، كانت، أو كانت "ناراً في رأسِ عَـلَم".
الشّاعر، الذي ربط الإنسان ببيئته فكراً وعاطفة، أدركَ مُبكراً حَتميةَ سُمُــوِّ ورّقيّ هذا الرباط؛ فكان الشاعر مُغَامِـراً عندما شبَّهَ عَـيْـنَيْ محبوبته بعيون الغزلان، وعندما أضْفى صفات حيوانية ونباتية على خليلته "المائسةِ" بجيد زرافة. 
والشاعر بتشعيرِ الطّبيعةِ جعل العالم "يتورط" في بناء منظومة شعورية بهيجة مع البيئة، فدفع الإنسان لترقيةِ البيئة إلى مرتبةِ شقيقته وساحرته وحارستهِ. عبر أنسنةِ الطبيعة واستئناسها... وتجاوز لهذا الهدف مصاعب ومشاقّ كثيرة تطلبت ترويض المخالب والأشواك والأمواج والحرائق!
وللشّاعر الموريتاني تاريخٌ مشرفٌ مع البيئة، فمنْ خلالها دوَّنَ حياة مجتمع الرحل بين الآبار والأَكْـلاءِ في السُّهوبِ، ورسمَ صوراً باذخة الجمال عن الديار وتراثها وناسها، باكياً الأهلَ والأحبابَ والخلّانَ وهم يرتحلون مُـنَبِّــئِـيْـنَ على طريقة "هريرة" وغير منبئين على طريقة "العرّاد".
ومن خلال مناقشات في صالونات وبيوتات ومجموعات واتسابية ثقافية يسهل استخلاص نتيجة مفادها أن الشاعر الموريتاني قام بتصوير بلاده شجرة شجرة ومنزلا منزلا وبئرا وعقلة، فخلد بذلك تاريخ المجتمع غراماً وفروسيةً وأنماطَ عيش ونضالا في الحرث والزرعِ وفي الدرس على ظهور العيس.
كان الإنسان البرزخيُّ جريئا في مناورته مع الطبيعةِ جنانٍ ومفازاتٍ وقفاراً فأبدعَ الجمال وخلّدَ ثقافتهُ كلمةً ولحناً وغناءً ورسماً وألعاباً وقيّماً.
والشّاعر "البيئي" هو الذي أنبأنا بما كان عليه أسلافُنا من خلالِ البيئة، وعلينا نحن أن نُـبَـيِّـنَ ما صارت إليهِ، ولكن علينا أيضاً أن نصُون تراث بيئتنا المدوّن شعريا، إذ ما زال "المرويّ" هو الحافظة الأولى للشّعر فصيحاً وشعبياً، والشّعر الموريتاني كانَ "شعْراً بيئياً" بعوالم تعبيرهِ ويكفي الإلمامُ ببعض القصائد و"الگيفان" لنسلم بأنَّه شعر رَسَمَ "هويةً تُرابيةً وطنيةً"، والجميع يعلم كم مرّة لجأ القضاةُ إلى الشعر للحكم بملكيةِ الأرضِ.
هذا الاستطراد الطويل جئتُ فيه بمعلوم بالضرورة.. ليس في الأمر أحجية تخدنَ طلسماً.
إنما أردتُ التنبيه إلى أن كثيراً من الصَّور والسياقاتِ الشعرية القديمة سيصبح في خانة اللامفهوم إذا لم نبادر بوضع "القاموس البيئي الموريتاني" الذي من خلاله سنعرف معنى "العبارات البيئية" الواردة في مدونتنا الشعرية.
فأمام الزّحف اللغوي الحديث؛ لغة المخبوز والمقليِّ، المقهى والرصيف، ندر من يعرف رشاءً من "أقان" وآخر من "تبليت"، وليست هذه المفردة إلا "قطرة في بحر غارق"... ولعلَّ الذاكرة أجمل ما تكون حين تستعاد على طريقةِ "التيگاگ" في استرجاعِ الحياةِ والخُضْرَةِ والظِّـل.
أخيراً: البيئة ودّ لدودٌ منغرس في فاكهة الأزل.

_________
تنشر كل ثلاثاء في صحيفة "الشعب".