قراءة في كتاب جماليات الشعر العربي الحساني (لغن) للدكتورة باته بنت البراء بقلم: النبهاني أمغر

النبهاني ولد أمغر(أديب وكاتب)

 

 

صدر مؤخرا كتاب "جماليات الشعر العربي الحساني (لغن) قراءة في الأساليب" للكاتبة والشاعرة الدكتورة مباركة (باته) بنت البراء.
وقد لامس هذا الكتاب هوى في نفوس المشتغلين بالثقافة والأدب في هذه البلاد، وتجلى ذلك في  ندوات التقديم والتوقيع التي أقامتها بعض الجهات الأدبية والثقافية، مثل اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين، والاتحاد الموريتاني للأدب الشعبي، وجمعية أقلام نسائية، وفي كمِّ الاحتفاء الكبير به، من الشعراء والأدباء والباحثين في حقول الثقافة الوطنية، خاصة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، والحقيقة أن لهذا الاحتفاء ما يبرره، فالكتاب يعتبر أول عمل جاد يتبع أسلوبا علميا ذا ضوابط ويستأنس بمناهج النقد الحديثة وما تتيحه من إمكانيات النفاد إلى جواهر النصوص، لدراسة الشعر الحساني ونقده والبحث في مضامينه، فكل ما كان قبله لا يتعدى القراءات النمطية جدا التي لا تتجاوز جمع بعض المدونات والتفطن لحوار نص مع نص سبقه وأحيانا مع نص عربي أو رصد مُحَسِّن لفظي أو معنوي أو خلل عروضي أو لغوي أو حديث عن عيب من عيوب القافية.
إن هذا الكتاب يؤسس - في نظري - لمرحلة جديدة من التعاطي مع الشعر الحساني واستنطاقه، ذلك الشعر كامل الدسم المتمتع بكل الخصائص الفنية والذي ظل غُفْلا من الدراسة والبحث، وهو أمر يتحمل أهل هذه البلاد ومثقفوها وزره فهم القِبلة التي يولي شطرها الباحث عن هذا الشعر وجهه، وما قامت به المؤلفة، بإسدائها عملها هذا يعتبر نوعا من القيام بواجب الفرض الكفائي عند الفقهاء.

مؤلفة هذا الكتاب الدكتورة باته، غنية عن التعريف، فهي قامة ثقافية وأدبية ومعرفية سامقة، ضمت إلى معرفتها التالدة للثقافة العالمة والشعبية في هذه البلاد طَارِفَ معرفة بالثقافة والأدب الحديثين ومناهج الدراسة والنقد، وهي عضو هيئة التدريس بالمدرسة العليا للتعليم، حاصلة على دكتوراه دولة في الأدب العربي الحديث، من جامعة محمد الخامس، بالرباط.
وقد مارست التدريس بالمدرسة العليا للتعليم وبالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية بانواكشوط، وبجامعة الملك سعود وجامعة الإمام بالرياض - المملكة العربية السعودية.
 وقدمت للمكتبة الوطنية والعربية منجزا تأليفيا خاصا مهما من أبرزه:
- كتاب جماليات الشعر العربي الحساني/ قراءة في الأساليب، منشورات خديجه عبد الحي، 2023م (وهو الكتاب الذي بين أيدينا)
 -كتاب مساحة للقراءة، منشورات خديجه عبد الحي ، باريز 2018م
  -ديوان مدى حرفين، منشورات دائرة الثقافة، الشارقة 2018م
  -ديوان أحلام أميرة، مطبعة القلم، بيروت- لبنان 1998م
 -الشعر الموريتاني الحديث دراسة نقدية-اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1998 م
 -ديوان أهازيج المساء، اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين، 2003م
  -ديوان مدينتي والوتر مطابع اسعيدان - سوسة - تونس 1997 م
  -حكايات الجدة، (3) أجزاء، مطابع اسعيدان- سوسة - تونس 1997
  -ديوان ترانيم لوطن، المطبعة الوطنية، انواكشوط 1991 م
- رمزية الحيوانات في الحكاية الشعبية الموريتانية، المكتب الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونسيف) 1999م (بالفرنسية)
ومن الإصدارات المشتركة للدكتورة باته:
 -صور من الحياة الموريتانية، بالاشتراك مع مادام تولبا- 1999م (بالفرنسية)
- الحكايات الشعبية الموريتانية جمع وتعريب مجموعة من الأساتذة- مطابع المعهد
التربوي الوطني انواكشوط 1998 م
- كتاب أطفال الروضة، مؤلف بالفرنسية بالاشتراك مع الدكتور كوريرا إيساغا، المكتب الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة 1999م
ولها العديد من البحوث المحكمة.

الكتاب شكلا

يقع الكتاب الذي صدر عن منشورات خديجة منت عبد الحي، في 243 صفحة، ويضم ثلاثة فصول، حيث تضمن الفصل الأول إضاءة كانت بمثابة المقدمة التي وضعت هذا العمل في إطاره، ودراسة بعض النصوص المختارة وعقد بعض العناوين الفرعية لظواهر وقضايا لصيقة بالأدب الحساني.
أما الفصل الثاني فقد عنونته المؤلفة ب: حوارية المعنى بين لغن والشعر الفصيح نظرة مقارنة.
وفي الفصل الثالث تحدثت عن " المنحى الصوفي في لغن الحساني عند جمال ولد الحسن، السمات والملامح.
وقد أشفعت كل فصل من الفصول الثلاثة بقائمة لأبرز المراجع والمصادر التي أخذت منها.

الكتاب مضمونا

 في الفصل الأول شرعت الشاعرة الدكتورة باته بنت البراء، مباشرة بعد الإضاءة؛ المقدِّمة، في دراسة مجموعة من النصوص الحسانية التي انتقتها ربما كمثال على النص الشعري الحساني، وإذا كان أغلب هذه النصوص يعود للأجيال الأولى من عمالقة هذا الأدب، فإن هناك بعض النصوص لبعض الشعراء المعاصرين، ومن الشعراء الذين حظيت بعض نصوصهم بالدراسة، امحمد ولد أحمد يوره، امحمد ولد هدار، الشيخ محمد لمين ولد امحيميد، سيديا ولد اسحاق، المختار ولد التونسي، بناهي ولد سيدي، سيديا ولد هدار، أحمدو بمب ولد ألمين، محمد ولد ابنو ولد احميدن، عبدو ولد محمدن ولد محمد باب، محمد نوح محمد فاضل، فضلا عن شعراء آخرين عديدين، أوردت المؤلفة نصوصا لهم كأمثلة في موضوعات أدبية تناولتها في الكتاب.
وقد راوحت المؤلفة في دراستها للنصوص بين منهجين حديثين معروفين، هما المنهج السيميائي، وهو المنهج الذي يبحث عن العلامات التي توجه قراءة النص، والمنهج البنيوي الذي يركز على استنطاق مكونات النص: الإيقاعية، المعجمية، الصُّوُّرِيَّة، .. إلخ..
ولم تكتف بذلك، حيث عمدت في بعض الأحيان إلى نوع من ربط النصوص  بالبيئة والحاضنة والمحيط، وغير ذلك من المؤثرات على النص.
ويمكن أن يقال أن معظم هذه الدراسات لهذه النصوص كانت احتفائية بعض الشيء، وربما يفسر ذلك كون النصوص التي اختارت المؤلفة كانت نصوصا مميزة يقلُّ الذي يمكن أن يقال فيها، ولو أن المؤلفة عمدت إلى تطعيمها ببعض النصوص الأخرى التي يمكن أن تُعمِلَ فيها مِقص النقد ومِبضعه، لكان ذلك أحسن في نظري.

وفي نفس الفصل تحدثت الكاتبة عبر عناوين فرعية عن بعض الظواهر الأدبية اللصيقة ب "لغنَ" وبعض القصص الأدبية ذات الدلالة في هذا الباب، ومن ذلك الحديث عن "المسكوت عنه في لغن" وتلك الحساسية المفرطة من التصريح في لغن، الأمر الذي يغيب تماما عندما يتعامل القوم مع التصريح في صنوه الشعر الفصيح.
ومن ذلك حديثها عن "خرق العرف والمقدس من طرف الشاعر الحساني" وهي مسألة سبقه لها الشاعر الفصيح، لكن الشاعر الحساني ياتي ذلك باحترافية كبيرة وفنية تحمل في طياتها أحيانا نوعا من التبرير الضمني والاعتذار المبطن، وقد ساقت المؤلفة في ذلك الباب نصوصا جميلة، ومن نصوصه التي لم تأت بها المؤلفة، هذه الطلعة:

اسبوع آمُورت كدح الوادْ
واعلي وامريم من لغياد 
وأتاي الزين أل يُمَادْ 
وردَّه ملس ماهي حَرْشَ
هذا لا عكبو يالجواد 
حر النار اعلي رمشَ
والل لا عكبو يسو زاد
اسبوع آموره بعد امش.

ومن تلك العناوين الفرعية، حديث المؤلفة عن صيغة التصغير في "لغن" حيث تجد هذه الصيغة الصرفية مرتعها الخصيب، فيُخَيل للدارس أنها أكسبت غرض الغزل في "لغن" لَبُوسا جديدا يجعله أقرب إلى الترقيص، وتورد المؤلفة في هذا الباب كافا لشاعر يخاطب زوجه الفتية التي ما تزال ترتدي الدراعة، يقول:
نعرف كنت إلى جبت امره 
تحْكي واتخليني نحكي 
كون أم ادْرَيْرِيعَه صفره
تكعد واتَّم ألا تبكي

وكنت أحفظ التافلويت الثانية هكذا: تتْكي واتخليني نتكي.
وربما تكون المؤلفة، اختارت هذه الصيغة التي لا يفهم منها نوع من خرق العرف والمقدس أو قلة الأدب على الأقل.
ولا أدري كيف فات المؤلفة أن تورد الطلعة المشهورة التي جمعت الحسنيين: التصغير، والغزل "المكفي"، والتي تقول:

كوليلي راجل جاك 
 ش إدور هو ذاك 
انتي مانك هاك 
امره كم اسمين 
و اوعر منش ملكاك
وادخين واشوينه 
وارويصك لمشكرد
حدولك لُذين
وافيمك كل ابلد
منو فيه اسنين.

ومن ذلك أيضا، الحديث عن ما سمته المؤلفة بالإيهام المضموني، وهو تعبير جميل عن مجموعة من الظواهر الأدبية، منهم من يسميها "اخروجو" ومنهم من يسميها "السكي اعل اظهر" وتشرحه المؤلفة ببناء النص في مضمون معين ثم نسف ذلك المضمون في خاتمة النص، تخلصا للغرض المُراد، مؤكدة أن هذا المظهر الفني يختص به لغن عن الشعر.
وتورد المؤلفة في هذا الباب مجموعة من النصوص، منها نص محمد باب ولد ابراهيم اخليل المعروف:
جان ديار افشمن الليل
إسوَّل عن ناكه واجْمَيْلْ
كلت أني ما نعرف سبيلْ
والبل ما نوكف واعدْها
والل ما نعرف شفت اكبيل
مانَ تتْبسم لولدها.

ثم تتحدث عن الشاعر الحساني وتحولات الزمن، وكيف أبدع في وصف سيرورة الزمن الأبدية وما تنتج من التحول والتبدل ومن تغييب معالم المكان وتحول آثاره.

ثم تتحدث عن التناص في "لغنه" ومدى انفتاح النص على نصوص سابقة عليه واعتبار ذلك مصدر ثراء له ودليل على تنوع ثقافة صاحبه وسعة اطلاعه، وتقول المؤلفة إن هذا الاستدعاء لا يكون ثريا ومقنعا إلا حين يتمكن الشاعر من توظيف النصوص توظيفا ناجحا بعيدا عن الاستنساخ الهجين والمعارضة السطحية.
وقبل نهاية الفصل الأول استوقفني إفراد المؤلفة لأبيات "الميمون"  للشاعر والعالم امحمد ولد أحمد يوره، التي مطلعها:

 منازل الميمون أقوت ذَرَكْ
إن لم تبكيها فما أصبرك .. 

بالحديث، لقد أوردتها بعنوان فرعي يمده حديث مستفيض، فكيف نتحدث عن الشعر الفصيح في كتاب يتحدث عن جماليات "لغن"؟!
في نظري أن المؤلفة تقصدت إيراد هذه الأبيات التي تمثل الاتجاه الشعبي في الشعر الفصيح عند الموريتانيين، باعتبار ذلك الاتجاه يمثل جسرا معبدا بين الشعر الفصيح و"لغن" وهو اتجاه استطاع حمل المعاني الحسانية في قوالب شعرية فصيحة منتجا بذلك أدبا، ومن أول ما قيل من الاتجاه الشعبي ابيات ولد الفظيل التي أوردتها المؤلفة:

مولود مجذوب ومن جذبه 
طلاوة تبدو على لفظه 
هو الفتى يا خل كل الفتى 
لاكنه ماش على غرظه 
فتارة يمشي على طوله
وتارة يمشي على عرظه.

في الفصل الثاني من الكتاب، تتحدث المؤلفة عن حوارية المعنى بين "لغن" والشعر الفصيح، نظرة مقارنة، مسهبة في الإتيان بمظاهر ذلك الحوار، ثم تتحدث عن الحوار الخفي الذي هو عبارة عن نوع من التداعي اللا شعوري يحدث في العقل الباطن ولا يثير لدى المتلقي شبهة الاحتذاء ولا الاستنساخ لنموذج سابق فهو حوارية لا واعية قد يسمونها توارد الخواطر أو وقوع الشاعر على الشاعر. 
ثم تتحدث عن الحوار الجلي، وهو ما يسمونه بالتفصيح والتغنية، والذي يمثل مستوى تكون فيه الحوارية بين النصوص عملية يقصد إليها الشاعر قصدا، حين يختار نصا يحوله من "لغن" إلى الشعر الفصيح، أو العكس، وقد ساقت المؤلفة أمثلة عديدة في الاتجاهين.
وفي ختام الفصل خلصت المؤلفة إلى الغاية من الحوار المعنوي بين النصوص، التي منها الغايات الإبداعية، ومنها اختبار قدرة اللغة التي يحول إليها النص على تمثله واستيعاب مراميه، وغير ذلك من الغايات.
في الفصل الثالث والأخير من الكتاب، تتحدث المؤلفة، عن المنحى الصوفي في "لغن" عند جمال ولد الحسن، السمات والملامح، وتستهل الفصل بتوطئة مضيئة على الموضوع، ولقد فهمت من خلال هذا الفصل وتناوله بهذا الشكل، أن المؤلفة أرادت الإضاءة على الشعر الحساني الصوفي وما يمثله من ثراء أدبي ودلالي وما يتمتع به من قدرة على حمل مضامين عمقية ودلالات إشارية، كما هو موجود في الشعر العربي الصوفي الفصيح بل وأكثر أحيانا، فأرادت المؤلفة لكي تكتمل صورة تناولها لجماليات "لغن" وتصل القراءة في أساليبه إلى تمامها، أن تتناول الشعر الحساني الصوفي، من خلال تناول شعر الظاهرة المتفردة الدكتور جمال ولد الحسن، الصوفي الحساني، وهو مثال يحتذى به لا شك، وقد يكون للمؤلفة في تناول الموضوع مآرب أخرى.
بعد توطئة الفصل الضافية التي بسطت الموضوع بسطا، تتناول المؤلفة أثر البيئة في توجه جمال الصوفي، ثم تتحدث عن البناء المعجمي لديه، قبل أن تتناول بالدراسة والتحليل مجموعة من نصوصه الشعرية الحسانية الصوفية، وقبل أن تختم الفصل عرجت على البناء العروضي عند الشاعر، وكيف اعتمد في نصوصه الطويلة على أوزان غير معروفة لدى العارفين ب "لغن".

في الختام 

لا يخفى ما لهذا الكتاب الذي يعتبر جهدا فرديا خاصا، من أهمية بالغة، فهو يؤسس بشكل علمي لدراسة ونقد وتناول الشعر الحساني "لغن" الذي نحن أهله الأقربون وأولى الناس به، ومن غير المستساغ أن تفتقد جامعاتنا ومعاهدنا العليا، لمركز دراسات واحد يعنى بهذا الشعر والأدب الحساني بشكل عام، فدراسة هذا الأدب وحفظه وتثمينه وتقديمه بالشكل المقبول في عصر الدراسة والبحث، من آكد مسؤولياتنا حتى لا نقول من ضرورات أمننا القومي.
إن مركزيتنا الثقافية في شبه المنطقة أمر سبق الدولة الوطنية الحديثة فخدمها عند النشأة وما بعدها، لذلك لا يجوز التفريط فيه، ومن النبل رد الجميل له.

(الصورة من جريدة الشعب التي نشرت القراءة اليوم في الصفحتين 8 - 9، مع تنويه عنها في الصفحة الأولى)