مذكرات حد من أهل الخيام 8…بقلم: المؤرخ احماه الله السالم

الدكتور احماه الله السالم مؤلف ومؤرخ

 

إلى الولايات المتحدة
وصلتني من جامعة كولومبيا الأمريكية دعوة موقعة من رئيسة الجامعة لحضور مؤتمر دولي عن مستقبل الديمقراطية يلتئم ما بين 20 ـ 23 مارس 2006 في رحاب تلك الجامعة العريقة الواقعة في مدينة نيويورك الأمريكية.
إشترط الداعمون للمؤتمر حصول كل مشارك على تأشيرة الولايات المتحدة بطريقة شخصية، فتقدمت بطلبي إلى السفارة الأمريكية واستقبلني القنصل وهو سيدة محترمة واستمرت المقابلة قريبا من الساعة.
أولا طلبت مني أن أضع أصبعي على جهاز مربوط بشبكات الأمن الأمريكية واستمر الشعار الظاهر في وسط الجهاز وهو يصدر نبضات كالقلب مدة دقائق وبعدها نظرت إلى النتيجة وقالت: عجيب لا يوجد أي ذكر لك في السجلات الأمريكية لا سلبا ولا إيجابا!
وبدأت المقابلة بسؤال: هل سبق لك زيارة ليبيا؟ فقلت: عدة مرات، فسألت: ولكن هل لك علاقة بالليبيين؟ قلت: أعرف مدير مكتب القذافي شخصيا وهو من يتحمل تكلفة تذكرتي على الدرجة الأولى ذهابا وإيابا بالخطوط الفرنسية ومصاريف الإقامة في الفندق غالي الثمن (والدورف ستوريا) فتعجبت من صراحتي وقالت وهل سبق لك أن قابلت القذافي فقلت لها: ألقيت أمامه خطابا وصافحته، فعجبت من صراحتي وقالت لسيدة موريتانية تعمل معها: أول مرة أجد شخصا بهذا الصدق والوضوح. ثم خاطبتني قائلة: هذه أول مرة تتقدم للتأشيرة وستنال ستة شهور، ولكن بعد رجوعك يمكنك أن تنال التأشيرة للولايات المتحدة في أي وقت تشاء ولمدى الحياة ولا تحتاج إلا لتقديم رقم التأشيرة الأولى وذلك لأنني وضعت إشارة على ملفك تسمح لك بذلك.
شكرتها وخرجت طالبا الإذن من رئيس الجامعة فتلكأ وتمنع ثم قبل بعد لأي لأنه كان يريد مني إلغاء السفر أو أن يفوتني قطار المؤتمر.
وللمناسبة فهمت أخيرا أن غالبية من تولوا رئاسة جامعة انواكشوط لهم صلة بالمخابرات وبعضهم له صلة وثيقة بالمحافل الماسونية أو بالإثنين معا.
أقلعت بنا الخطوط الفرنسية وكانت رحلة مريحة وآمنة وفي منتصف الطريق بين باريس و نيويورك كان يجلس على المقعد المجاور مسافر من بلد مغاربي وكان يشرب الخمر فوقفت حتى ينتهي وتحدثت برهة مع مضيفة فرنسية خلوقة وتشعب الحديث عن الدين والإنسان،  وعرفت منها أنها كاثوليكية ملتزمة وطرحت عليها بضعة أسئلة وجئت باستدلال بمضون آية من القرآن الكريم فقاطعتني: لا تحاججني بكتابكم بل بالمشترك العقلي بيننا قلت معك حق وهو الصحيح، وسألتها هل تعتقدين أن المسيح تحمل آلام البشر؟ قالت نعم؟ قلت: وهل من الإنصاف أن يحدث ذلك فأجابت: لا أدري، ثم أضفت: إذا قمت أنا بتنظيف ثيابي هل تزول الأوساخ عن ثوبك أنت فردت قائلة: لا؛ بالطبع. وفهمت قصدي وسكتت.
رجعت إلى المقعد بعد أن أنهى المسافر ما كان يشرب وسألته من أي بلد مغاربي أنت فقال: من البلد الفلاني، فقلت له هل أنت مسلم فقال نعم وأصلي فقلت: كيف تشرب الخمر وهي من كبائر الإثم فقال: والله بعد عهدي بها وهو خطأ، فقلت له: إذا سقطت الطائرة سأكون شهيدا وستموت أنت على كبيرة وتدخل النار فبكى وظل يردد أنه مسلم حتى رحمته. وكان يعمل في لجنة مشتركة للصيد بين بلده والاتحاد الأوروبي وتحدث بإعجاب عن الموريتانيين وذكائهم وكرمهم.
وصلت إلى مطار جي إف كندي وتباطأ مسؤول الجوازات في قبول دخولي وظل منشغلا بتصرفات عبثية (غير لائقة) مع زميلته الأوكرانية الأصل، وكانا ينظران كل مرة إلى وجهي ليعرفا تاثير ما أرى من تصرفات فعلمت أنه اختبار ولم ألق له بالا ثم لم يجدا (مشكلة) تمنع الدخول وفجأة سألني عن رقم منزلي في انواكشوط فقلت له أن المنازل عندنا غير مرقمة فصاح قائلا: لن تدخل إلا بعد أن تصرح برقم المنزل ويجب أن يكون صحيحا، فتذكرت رقم المنزل في تفرغ زينة وقدمته له فلبث مترددا ثم ختم الجواز بالدخول وبعدها توجهت إلى قسم لشرطة المطار وجائتني سيدة تتكلم الفرنسية وأكملت بعد الإجراءات بعد عدة أسئلة وخرجت من المطار لأجد مسؤول المؤتمر غير موجود فطلبت سيارة أجرة وكانت متاحة وقدمت لها عنوان الفندق فنظرت متعجبة من هذا المسافر (لمبرتي) المتوجه إلى فندق خمسة نجوم وهو المقام المفضل لرؤساء الدول ولم تعلم أنه مدفوع مسبقا من غيري.
وصلت إلى الفندق واتصل الاستقبال بمنسق المؤتمر فخف عجلا وجاء مرحبا وصعد معي إلى الغرفة في الطابق 15 وسلمني برنامج المؤتمر وخريطة نيويورك و مبلغا ماليا يقدم للمشاركين.
تعرفت على وفود من دول عربية مختلفة ومن بينهم أكاديميون معروفون والغالبية كانت من ليبيا التي مولت المؤتمر، وفي اليوم الأول وجدتني وأنا أمام جامعة كولومبيا مشدوها من ضخامة وعظمة المبنى ونظافته واتساع الحرم الجامعي ولاحظت أن أعداد الطلاب كبيرة لكنك لا تسمع إلا همسا أو زقزقة الطيور على أوراق الشجر! كما أنه لا أحد من الطلبة يعترض طريق الأساتذة أو يكلمهم ولكل طريقه. (إيردها اعلينا).
كانت قاعة المؤتمر ضخمة مثل المباني الرومانية وكانت منصة المتحدثين مشتركة أما المستمعون والمشاركة فيجلس كل ثلاثة حول طولة مستقلة وكانت الترجمة الفورية متاحة بين اللغات العربية ـ الإنجليزية ـ الإسبانية أما الفرنسية فلا محل لها من الإعراب وهو ما شكا منه زميلي لعبيدي القادم من سويسرا مع زميله الفرنسي.
كانت الجلسات منظمة ودقيقة وكانت إدارتها صارمة ولا يسمح بالتفاصح ولا الإطناب (كيف أهل الخيام) حتى أنني عندما تداخلت معلقا على محاضرة أمريكية عن القطاع العام والديمقراطية نسيت فكرة وكدت أخرج عن الموضوع فنبهتتني إلى أنها لم تفهم شيئا، فأعدت الكرة وأوضحت ما أقصد.
وذات مرة تدخل نائب وزير الخارجية الأمريكية وكان معنا مشاركا وهو على المنصة فقاطعه رئيس الجلسة بأن الوقت انتهى. وإذن لم يكن هناك مجال للمجاملة.
تعجبني صفة في رجال الدولة الأمريكيين وهي التواضع حتى أنني عندما وجدت ريتشارد مرفي وهو مدير أمن قومي سابق وهي رتبة لها خطرها طلبت منه أن نأخذ صورة معا فقال بكل سرور ووقف بتواضع وحدثني عن عمله قائما بالأعمال في انواكشوط في السبعينيات.
لاحظت أيضا أن رجال الاستخبارات والصحافة والأكاديميين وغيرهم يجلسون ومن دون حرج ولا كتمان لمراكزهم في الشغل ويتبادلون النكات والآراء بحرية واحترام.
في أحد أيام المؤتمر تدخلت بشأن السلام في الشرق الأوسط وظن بعضهم أنها (راص اخظارة) وأنني مطبع بامتياز فجاءني وكان شابا طويلا ملامحه شرق أوسطية سامية، وأحرجني بأسئلة عن جامعة انواكشوط وسيطرة التيار الإسلامي فقلت له يسيطرون على كل شيئ فظهر على وجهه شعور بالمرارة، وعرفت بالطبع أنه ضابط استخبارات إسرائيلي ويعمل بغطاء صحفي. (ما يدرك ذاك).
لاحظت أن غالبية الحضور من الليبيين لا يريدون التدخل وأن بعضهم محرج ربما لأن القذافي سيتدخل عبر الأقمار الصناعية وقد تم ذلك ورد على بعض الأسئلة لكنه لم يستطع الجواب عن البعض الآخر وظهر على ملامحه الاستياء ثم أعلن الإنسحاب. وكان ظهوره مسرحيا وسطحيا في تلك المقابلة.
إستمرت جلسات المؤتمر ويتخللها استراحة كل ساعتين، وفي إحدى المرات كنت أسير في البهو فوجدت سيدة أمريكية وخاطبتني بالعربية وبأنها وحيدة وزوجها في لبنان وأنها تعمل في مكتب وزير الخارجية وأنها تتشرف بأن تزورني في الفندق فشكرتها وبينت لها أنني لست مستعدا، وبالطبع عرفت بداهة أنها تعمل في الاستخبارات وأن الموضوع جزء من عملية تقليدية تحدث كثيرا ويقع فيها من لا يمتلكون حسا أمنيا أو (ما يتحكمو افروصهم وافكل شي أوخر!)؟
في ذات المساء حضرت مع الزملاء عشاءا رسميا نظمه نائب وزير الخارجية وزوجه المحترمة وكان عشاءا بسيطا ورمزيا كالعشاءات الرسمية (ليس لملء البطون) وكانت السيدة (فلانة) ذاتها تنظر إلي مرارا فأشحت بوجهي إلى زميل فلسطيني هو خالد صفوري (يعمل حاليا في مؤسسة للأبحاث في واشنطن) وطلبت منه أن يكون دليلي في شوارع نيويورك فتردد فأكملت سأتحمل عنك فاتورة غداء فاخر في أي مطعم تريد فوقف وقال هيا، وعرفت أن الحياة الأمريكية يحكمها منطق تعاقدي (أنفعني وأنفعك أو كل شيئ بمقابل).
خرجنت مع الزميل نتسكع في شوارع نيويورك وكان يطلب مني التوقف لأخذ صورة أو  دخول متجر لربطات العنق وبدأ يطرح أسئلة من قبيل: هل أنت إخواني؟ هل أنت قومي\ليبرالي، هل تعرف شيئا عن الماسونية، فعجبت له يسأل ولا أجيب ثم  قلت له لن أجيبك حتى تتحدث معي بصراحة؟ فقال مباشرة: أنا على صلة وثيقة بالحكومة هنا (يقصد الحكومة المانعة) وهي من تكفلت بدوائي غالي الثمن (أشار إلى عملية قديمة) ولا يطلبون مني نميمة بل مجرد خدمات (هوه يونّي) وقد طلبوا مني أن أعرف منك إمكانية العمل معهم للتغلغل في نظام القذافي، فقلت له: هل تعجز حكومتك عن ذلك؟ فقال: لا، لكنه شخص مراوغ ولا يستطيع أي كان معرفة موقفه الحقيقي وأنت عربي ومن بلد يثق فيه القذافي ويقربكم كشعب وسبق لك أن زرت ليبيا مرارا واستقبلك أركان النظام ولك أصدقاء في مكتب العقيد. قلت له: لا أستطيع القيام بمثل هذا العمل ولا الانخراط في التجسس لصالح دولة أجنبية، فقال: ستفوتك فرصة عظيمة وأرجو أن تفكر مليا في ما قلت لك.
سلمت البحث الذي أعددته وكان قيد الترجمة إلى الإنجليزية لينشر في أعمال المؤتمر لدى دار نشر جامعة كولومبيا وكان ذلك آخر عهدي بنيويورك وبصديقي رسول الاستخبارات وزميلته تلك. وعرفت من وجود تأشيرتي من نوع مميز أن العناية كانت مقصودة.
وخلاص