زهد العلماء..بقلم (سيدي محمد اكرس اكرك)

 

 

بعث لي أحد الإخوة مقطعا مصورا لشيخ مغربي يتحدث فيه عن ورع وزهد العلامة الشيخ الحاج ولد فحفو رحمه الله.

بذات السمات وذات البرنامج اليومي وذات العبادة والزهد والروح الشفافة والكشف، ظننت الأخ المغربي يتحدث عن العالم العلامة العابد الزاهد الناسك سيبويه عصره وأويس زمانه وفضيل أوانه: الشيخ احمدو “مدُّو” بن محمذن فال الحسني الأعمري.
كان الشيخ أحمدو ولد محمذن فال رحمه الله، من أعلم أهل البلاد بعلم النحو بعد شيخه يحظيه.
كان لايأكل إلا ما أنتجته مزرعة صغيرة هو القيم عليها يزرعها ويسقيها بيده!
كان لا يشرب إلا مما امتاحه بيده من بئر حفرها، وكانت له بقرة اشتراها من حر ماله يحلبها بيده تحريا للحلال وفرارا من الشبهات.
لم ينتفع من مال ابن ولا صهر ولا تلميذ.
يومه مشحون بالتعليم والعبادة وليله قيام وتلاوة.
أخبرني أحد طلبته أنه ربما أتاه في الهزيع الأخير من الليل فوجده قائما يضيء دجى الليل بنور القرآن فيختبئ وراء دفئ الخيمة خشية أن يحس به لسماع تلاوته العذبة، وما إن يسلم حتى يناديه باسمه (فلان) مَشِّي، فيتعجب كيف أحس به وكيف عرفه، وقد حدث الأمر مع غير واحد من الطلبة.

 ظل شيخ الشيوخ العلامة أحمدو ولد محمذن فال، قمرا بازغا يبث العلم على ربوع "تنچغماچك".
كان التلامذة حوله يتخذون أعرشة من جذوع الشجر فأتى مرة أحد أبنائه بصفائح من الخشب لبناء أكواخ فاعترض الشيخ قائلا إن ذلك بناء الخالدين!
وعما تبقى من حميد خصاله ::  أرى الصمت أولى بي من أن أتكلما

قلت هكذا كان سلفنا الصالح ولا يزال في الخلف بقية من ورع وزهد السلف.
ركوب (v8) وبناء القصور والتورق والاستنكاح استثناء، جاء مع الانفتاح والبيترودولار، أما القاعدة فهي الزهد والإخلاص لله.

لم يأخذ الإمام الأكبر بداه ولد البصيري برّد الله مضجعه، أي راتب من الدولة طيلة نصف قرن قضاها وهو الأمام الأكبر ومفتي الجمهورية، فكان حُرا يصدع بالحق، في وقت استعبد فيه غيره.
جأرت بها : (لا)، لا يقوم لحدِّها :: مليك ولو جزّ الطُّلى وتدرّقا
أنفت عن الدنيا وعن زَرَجونِها :: ولو شئت ما أعياك أن تتورّقا
ولكنها نفس الكريم تصونه :: إذا صانها أن تُسْترَقَّ فأعتقا

وهكذا كان شيخه العلامة لمرابط محمد سالم ولد ألما رحمه الله.
لم يكن لمرابط من أهل المال لكنه كان يأنف عن صدقة الزكاة ويقول إنه غني بالله تعالى ومن كان غنيا بالله تعالى لايفتقر إلا له، لأن فقر العلماء فقر اختيار وفقر الجهلاء فقر اضطرار، كما كان يقول رحمه الله.

وحبّس عليه بعض مستغرقي الذمة، شيئا فتوقف فيه وتروى وسأل العلماء وفتش الكتب حتى ظفر بكلام في كتاب الفوائد (مقتنص الشوارد) للعلامة الورع المصطفي بن أحمد فال العلوي رحمه الله، فقد قال عازيا لنوازل سيدي أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي: " إن مال مستغرق الذمة حكمه كحكم بيت المال يعطى لقضاة الحق والمدرسين إن لم تكن لهم أوقاف وللأيتام وإن كان الإمام عدلا تولى تفرقته عليهم وإلا فمن تحقق كونه من أهل المصرف وقدر على أخذ شيء مما ذكر.." 

وحدّث الشيخ الحسن بن السيد رحمه الله، قال: لقيت الأمير محمد فال ولد عمير رحمه الله، في داكار ذات قدوم له من المغرب، فسُرّ بي وسألني أول ما سألني عن شيخه لمرابط محمد سالم ولد ألما، وكان يجله وكان كلاهما يحب الآخر، فأخبرته بحاله ثم دعاني للمقيل وفي شجون الحديث سألني ماهي أحسن هدية يمكنني أن أهديها للمرابط محمد سالم ويقبلها مني ؟ 
فكر الحسن فلمرابط لا يقبل المال ولا غيره من الأشياء العينية، وتذكر أنه ذات درس سمع لمرابط يذكر كتاب (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) للإمام شيخ الإسلام حافظ المغرب أبي عمر يوسف بن عبد البر، وهو كتاب فريد في بابه، وموسوعة شاملة في الفقه والحديث، شرح فيه ابن عبد البر كتاب الموطأ للإمام مالك.

 سمع الشيخ الحسن، لمرابط مرة يذكر التمهيد ويتمنى لو حصل على نسخة منه، فقال للأمير ول عمير إذا بعثت له بنسخة من التمهيد تكون أتحفته بالأرب، انفض المجلس ورجع الأمير إلى المغرب وبعد فترة جاء بريد للحسن في دكار يحمل مجلدات التمهيد بطبعة فاخرة.
 حمل الحسن الكتاب مباشرة إلي شيخه لمرابط محمد سالم الذي فرح به ودعا لصاحب الهدية وحاملها، وضع لمرابط الكتب بين يديه في خيمته وسأل الحسن عن حال الأمير محمد فال ؟
فقال الحسن : إنه مكين أمين عند سلطان المغرب. 
تغير لون لمرابط ثم ضم الكتب وأنشأ يدفعها ويقول: أخبار يانَ من السلاطين .. أخبار يانَ من السلاطين .. حتى ركنها في طرف ثم انصرف.
يقول الشيخ الحسن وظلت تلك الكتب في مكانها ذاك حتى توفي لمرابط وهي هناك. 

وكذلك كان العلامة لمرابط محمد الأمين ولد البشير الغلاوي رحمه الله، الذي كانت محظرته في مدينة أطار مصدر إشعاع ومركز استقطاب لتلاميذ شتى من مختلف مدن وقرى المنتبذ القصي.
فلم يكن رحمه الله من المتشوفين لجمع المال، ولا من المتسابقين إلى كسب الحظوة عند أهله، تكرر مرات عديدة ـ كما روى العدول ـ أن يأتيه الرجل بالمال متوسلا إليه أن يقبله، فلا يزيد -بعد لأيٍ - أن ينادي على أحد الطلبة: افلانْ اسمعتْ ذاك، إيذانا بأن ذلك المال له ولطلاب المحظرة.
توفي لمرابط محمد الأمين سنة 1977 في نواكشوط، وتولى الصلاة عليه الإمام الأكبر بداه بن البصيري، ودفن بمقبرة لكصر.
لما قدم الإمام الأكبر الشيخ بداه للصلاة على المرابط محمد الأمين، وضع يده على جبينه وهو مسجى على نعشه، وقال: هذا آخر العقلاء، إشارة إلى زهده وعمله لآخرته.
ويقول فيه العلامة المؤرخ المختار ولد حامد رحمه الله:
أما والليالي العشر والشفع والضحى :: ومن صام للمولى وصلى وسبحا
لقد فاز هذا القطر بابن سِـد أحمد :: سليل البشير الحبر فوزا وأفلحا 
على حين ليل الجهل أظلم والهوى :: وروض الهدى والعلم والبر صوحا 
فأما الهدى والعلم فاخضل روضـه :: وأما ظلام الجهل فانزاح وانتـحى
غدا يشرح العلم الصحيـح ولم تكن :: علوم الهدى لولاه يوما لتشرحا

وقال عنه دولته إبان دراسته على العلامة الشيخ يحظيه ولد عبد الودود رحمه الله، صديقه العلامة الشيخ يسلم ولد أكيبّد رحمه الله: 
لَعَمْري لَنِعْمَ النّدْبُ نَدْبًا وَ نِعْمَ مَا :: مُحَمَّـدْ لمينُ بْـنُ البشيرِ المفارقُ
لئنْ سَارَ عنّا سَارَ عنّا سرُورُنَـا :: وَ سَارَتْ علومٌ لَمْ تَنَلـهَا الـسَّـوَابقٌ

ورفض العلامة المحقق الشيخ المختار ولد ابلول(التاه)رحمه الله، أن يأخد هدية مالية بعثت بها الدولة مع الإداري الحاكم لمرابط ولد برو رحمه الله، لأنه لم ير وجها شرعيا في تقديره لقبولها !
كان الخبير بفصل الحق عن شبه :: عند اختلاط طهور النص بالنجس
وكان إحيا علوم الدين ديدنه :: دأبا وتدريس عافٍ منه مندرس
وللخليل وسيبويه دورهما :: أيضا إذا خيض في علم الخليل وسي (بويه)
وكان في الليل ممتدا تهجده :: حتى أداء صلاة الصبح في الغلس
وكان للضيف بساما ومبسمه :: يزري بكل لمى في البيض واللعس
ولست أحصي مزايا شيخنا وعلى :: ما قيل ما لم يُقَل من ذاك فليُقَسِ

وكذلك فعل  العلامة المحقق الورع الزاهد الشيخ عبد الله ولد داداه رحمه الله.
ففي عام 1974، أرسلت الحكومة الموريتانية إلى الشيخ عبد الله ولد داداه رحمه الله ـ عن طريق حاكم مقاطعة بتلميت ـ مبلغا ماليا، فأعاد الشيخ عبد الله المبلغ، مع الرسالة التالية: 
"سلام ورحمة الله وبركاته، من الكاتب إلى السيد الفاضل سيدنا، ورئيسنا، ومتولي أمورنا ومصلحها، الحاكم: ماسينا ممدو، من مُوجِبه إعلامكم أن الفضة التي بعثتم لي مع إمام المسجد أحمد ولد ألفق المصطفى أتتني، وشكرتكم على ذلك، وقد بعثتها لكم لتردُّوها إلى الوزارة التي أرسلتها لكم، وما رددتها لكم إلا لأني رأيتُ كثيرا كثيرا من الأحاديث الصحيحة فيها التحذير والوعيد لمن يأخذ على تعليم القرآن أو العلم شيئا من الدنيا، فأنا أخافُ ذلك الوعيد، وقد كنتُ نويتُ قَبْلُ لِـ للهِ أن لا آخذ نوعا من الدنيا في مقابلة تعليم أحد من المسلمين، ولا أقدر أن أنقض تلك النية، ولا أُقَاسُ على السادة الذين يُقْرِئُون بأمر من الحكومة، وتعطيهم المال ويأخذونه، فأخذهم للمال ليس في مقابلة التعليم، حاشاهم من ذلك، وإنما هو في مقابلة حبس الحكومة لهم عن تصرفهم في طلب معاش من يلزمهم، وأنا لستُ محبوسا، ولا أعملُ للحكومة، فأيُّ سبب آخذ مالها به؟
 أسأل الله أن ينصرها ويسددها ويعينها، ويخذل أعداءها، فأطلبُ من سيادتك أيها السيد أن تقبل مني عذري، وتعتذر عني للوزارة التي أرسلت الفضة، وأنت أدرى بما تقول لهم، وما كنتُ أحب أن أصرح بعذري، لما فيه من شبه تزكية النفس، لكن ظننتُ أو تحققتُ أني يَجِبُ عليَّ أن أقوله، مخافة أن تظنوا أني رددتُ تكرمتكم من غير عذر.
وكتبَ عبد الله بن داداه
 سادس المحرم عام 1394 هـ"
وكما قال فيه العلامة المؤرخ المختار ولد حامدٌ:
يا عابد الله ويا طائعه :: وعاملا بعلمه وازعهْ
مطبقا لسنة المصطفى :: ما زلت فيما سنه تابعهْ
ربيعة قد كنت فى علمه :: وكنت فى نسكه رابعهْ
كنت مثالا فى التقى رائعا :: ما أروع الأمثلة الرائعهْ
وكنت فى شأو التقى أولا :: لا ثالثا كنت ولا رابعهْ

وحين زار الرئيس السنغالي ماكي صال، قرية النباغية العامرة، أهدى (سيارة v8) للشيخ العلامة اباه ولد عبد الله، فاعتذر الشيخ اباه عن قبولها، اعتذارا لبقا، كانت مع الرئيس صال السيدة حرمه مع ابنتهما، فقال الشيخ اباه لقد قبلت الهدية وأنا أيضا أهديها لهذه الفتاة، وأعطى المفتاح لابنة ماكي صال الصغيرة، فلم يكن ثمة بد من العودة بالسيارة إلى السنغال.

وفي قرية "الدوشلية"  اعتذر الشيخ العلامة محنض بابه ولد امّين عن الهدية التي قدَّمها له الرئيس الغيني ألفا كوندي، (آلاف الدولارات)، وهو أمر لم يفاجئ الرئيس كوندي، فزهد الشيخ وعزوفه عن الدنيا يعرفه القاصي والداني، فالشيخ يكتفي من الدنيا بكفن يلبسه فقط لاغير.

كان العبد الصالح العلامة ببكر ولد عمر ولد ابنُ عبدم الفاضلي معروفا بالزهد والورع والصلاح والعزوف عن الدنيا، وذات ضحوة كان يمسك سبحته متفيئا ظلال دكان في العاصمة مستغرقا في أوراده، مرت سيدة تمطي سيارة بيجو 305 فارهة، وقفت بجانبة ومدت له ألف أوقية، اعتذر بلباقة وقال لها: 
أفصلْ فيه انتِ إل عندك وَتَ 
يقول العلامة المؤرخ المختار ولد حامد:
إنَّ الذين نعوا بَبَكّرَ ابنَ عمرْ :: علماً وتقوى نعوا ومكرماتٍ ُاخَرْ 
وواحدا من عبادٍ جاء وصفُهمُ :: في "المؤمنون" وآياتٍ لبضع سُوَرْ 
وثانيَ اثنين في ديمانَ قد نشآ :: في طاعة الله والمختارِ خيرِ مُضَر
صِـنوانِ كانا مدى عُمْرَيهما ثبَتا :: على طريق "أبي بكر" ونهجِ "عُمر"

إنهم رجال تخرجوا من مدرسة الحسن البصري، استغنوا عن دنيا الناس واحتاج الناس إلى علمهم وصلاحهم وبركتهم.
تلك المكارم لا قعبان من لبن ::  شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

كامل الود

سيدى محمد إكس