*حديث اليــراع: النقائض الفقهية بقلم : أحمد سالم ألفغ عبدُ الله
كانت النوازل الفقهية حاضرة لدى الموريتانيين قديما وحديثا، فدارت هذه النوازل ابتداء بين علماء موريتانيين وآخرين من فاس ومكناس بالمغرب .. وقد استحسنها العلماء الموريتانيون ودأبوا على جَعْل النازلة الفقهية شعراً ابتداء، أو يكون التحدي بها شعراً يختبر به العلماءُ أقرانَهم فهما وإنشاءً .. فتكون معركة حامية الوطيس فيصلُها هو الفهم الثاقب والعلم الجمّ والشعر الحسَن .. وظلّت اختبارا حاسما للعالم وميداناً شريفاً للتنافس المُثمر والمفيد للعلم وطلاّبه فتناشدتها الآذانُ استحساناً في الأسمار وسارت بها الركبانُ من حي إلى حيٍّ ومن بلدة إلى بلدة ..
وقد حدث ما يُمكن أن يُضاف إلى النقائض الشعرية وتسميته بـ"النقائض الفقهية " .
لم يُحدّد تاريخ لنشأة هذه " النقائض الفقهية" إلا أنٍّها ازدهرت ازدهاراً كبيراً في بدايات القرن الثامن عشر ، وكثُرت في المسائل الفقهية كالدماءات والأنكحة ومستجدات العصر .. ومن "النقائض الشعرية الفقهية" ما دار بين العلماء في الحُبس هل يعود إذا انقطع نسْل المحبَّس عليه أم لا ؟ ودار في ذلك نقاش شهير بين من يرى أنه يعود إلى أبناء المحبَّس عليه، وقال بذلك حرمه ولد عبد الجليل العلوي ( 1150 - 1243 هـ - 1737 - 1828 م ) و إِدْيَيْجَه ولد عبد الله الكمليلي ( 1170 - 1270 هـ - 1756 - 1853 م ) ، وقال بابه ولد أحمد بيْبَه العلوي ( 1209 - 1276 هـ 1794 - 1859 م ) ووافقه محنض بابه ولد أعبيد الديماني ( 1185 - 1277 هـ - 1771 - 1860 م)، يعود إلى أقرب الناس للمحبِّس، فقال إدْيَيْجَه قصيدته التي مطلعها :
يا صاحِبيَّ قفا بالمنهَل الصَّافِي
وسَلِّما الحُكمَ للقاضي بإنصَافِ
ووافِقا حُرمه في ما قال ويْحَكُما
فـإن شيْخَكُما أدرى بالأوقَافِ.
فردَّ عليه العلامةُ محنض بابه ولد اعبيد بقصيدته التي مطلعها :
إذا تأمّلتَ مَكتوبي بإنْصافِ
ألفيتَ فيه زُلالاً عَذبُه صَــــافِ
هو المُصيب لصَوبِ الفَهم عضَّده
نقلُ الشيوخ بنصٍّ واضِحٍ شَافِ.
ومنها أنّ العلامة بابه ولد أحمد بيبه العلوي ( 1170 - 1270 هـ - 1756 - 1853 م ) خالف ابن عمّه العلامة أجدود ولد اكْتوشْنِ ( 1209 - 1276 هـ - 1794 - 1859 م ) في مسألة مسح العضو المألوم، الذي رأى العلامة باب ولد أحمد بيبَه أنه يمسح عليه مثل ما يمسح على الجرح والجبيرة، وخالفه العلامة أجدود ولد اكتوشنِ الذي يرى أن العضو المألوم إذا كان الغسل يضره ينتقل إلى التيمم ، فنشأت بينهما نقائض ، يقولُ بابه :
ومسْحُه ما سوى العضويْن ثمّ على
جَبائرٍ وعِـــــصـــابَاتٍ يشدُّهما
فردَّ عليه أجدود بقصيدة قال فيها :
قالت سُليمى وفي أقوالِها عجَبٌ
دَعْ التيمّمَ إن المسْح قد حُتِــما
أما سمعتَ تواليفاً ترشّحه
بها التيمّمُ بعْد الرُّخْصَة انهَزَما.
ومن النقائض الشنقيطية ما دار بين العلامتين العلامة نافع "مَيْمِّيهْ" ولد حبيب ولد الزائد التندغي ( 1339 - 1416 هـ - 1920 - 1995 م ) والعلامة محمد سالم ولد محمد عالي ولد عبد الودود" عدُّود" المُباركي ( 1348 - 1430 هـ - 1929 - 2009 م )، حيث رأى نافع أن الصلاة في الطائرة غير صحيحة لأن السجود لا بد أن يكون على الأرض أو ما يتصّل بها، ووافقته طائفة من العلماء منهم القاضي أحمد سالم "ديدي"ولد سيد محمد ولد الشيخ أحمد الفالِّ الديماني ( 1323 - 1409 هـ - 1905 - 1988 م ) وغيره .. وشارك بقصيدة تعضدّ رأي نافع، كما رأى علماء آخرون منهم العلامة محمد سالم ولد عدود أنها صحيحة ولا يشترطُ في الصلاة اتّصال المكان بالأرض .. ومعه في ذلك العلامة الإمام محمدُّ "بداه" ولد البُصيري التندغي ( 1338 - 1430 هـ 1919 - 2009 م ) الذي كتب كتابات نثرية تعضّد رأي محمدسالم ولد عدود، فقال نافع قصيدته التي مطلعها :
أَيا عُلمـاءَ العَصْر دمتـم جوابَـكم
بنـسـبة مـرويّ إلـى ثـقـة روَى
أسائـلُكم كيف الصـلاة بطـائـرٍ؟
بأسرع من لمْـحٍ لفيح الهـوى طـوى
فإنْ قلتُـم صحّ السجـود بسطحـه
فقد قلتـمُ صحّ السّجودُ على الهَـوى
إلى أن يصل رأيه الفقهي قائلاً :
وهَل راكبُ الطيار كالركْـب أم هُمُ
لَديْكم كذي فُـرْش على فرْشه اسْتوى
فإن قلتـمُ ركْبٌ فقد أجمـعوا عـلى
فَسـادِ صَـلاة الرّاكبيـنَ على النَّوى
و إن قلتمُ كالفْرْش فالأمـر واضحٌ
بتفـصيلهم فيمَن على فُـرُش ثـوى
تصِـحّ إذا كان الفِـراش مُلاصِقـاً
وتبطُل مرفوعـاً وإن كان مَحـشُـوا
وقد قـال أعْـلامُ الأئمـة قَـولةً
لـداء اختـلافِ الفَهْم قِدْما هي الدَّوا
إذا مـا اختلفتُم في الحَقـائق حَكِّموا
حدودَ ذوي التَّحقيق للمنهج السّـوى
حَكاهُ القـرافي في الفُـروق وإنَّها
بـمبحثـنا ذا رَبْــع عـزة باللّــوى
فـهذي حدود للسُّجـود تواتَـرتْ
تـبـيـِّن بيـن الحقّ منه وما سِـوا.
فردَّ عليه العلامة محمد سالم ولد محمد عالي ولد عدود بقصيدته التي مطلعها :
تبَاركَ ربّي ذو الجَلال الذي اسْتَوى
على العَرْشِ واسْتَولَى على المُلْك واحْتَوى
مَلائكةُ السَّبْع السّموات سُجَّدٌ
لسلطانه كـــــــــلّ له ذلَّ واقتَوى
فمِن فضله أنْ أرسل الرّسل للورى
فمِن مُفْلِح أوفَى ومن خاسِر غَوى
وقفَّى على آثـــارِهم بمُحمدٍ
ليُخْرجنا من مُقتضى الجهل والهَوى
ويعبِّر عن رأيه الفقهي قائلاً :
فأمّا الذى استشكلتمُ مِنْ صلاتِنا
بــطائرة تنسَابُ فى لُجَج الهَوا
وألزمتمونا جعْلنا العُلوَ واحِداً
مع السّفل في حُكْم السّجود معا سَوى
فنقبلُ ما ألزمتمونا ونلتقي
على مَوْعِدٍ للبحْث في مَوضِع سِوى
بـــأيِّ كـِتــــابٍ أمْ بــــأيةِ سُنةٍ
يخصّص بالسّفل السجود لذي القُوى
ألم يكُ سكانُ السموات سجداً
بنصّ أتى عن فالِق الحَبِّ والنَّوى
فكَم آيةٍ جاءت بذاك صَريحةٍ
وكم من حَديثٍ صَحّ لفظاً و مُحتَوى
وذكرُكمُ الإيماءُ ليس بواردٍ
فلم ينفذ السّهم السراة ولا الشّوى
فموطئ ذي الإيماء لم يكُ سطح ما
يبـاشر بالكفيْن والوجه إن هَوى
وإجماع بطلان الصلاة لراكبٍ
بغيْر سَفين البَحر إن لم يَخف تَوى
يُجاب على تسليمه أنّ حكمَه
إذا لم تقعْ منهُ الصَّلاة على اسْتِوا
فإن حصَـلت أركانُها وشروطُـها
كقبلتها صحَّت على كل مُستَوى .
ويُقال إنَّ نافع قال من باب الطرافة مداعبا أحد تلاميذته : " أبْگيْت آن بالحُكم وأبگه محمدسالم بالشعر ".