الرّمز المنقلِب عن الكناية../اشريف محمد يحي

مع فلسـطين تتوسّع مَسارِب البلاغة وتتمدد تفريعاتها، ويغلظُ فَتْلُ مُخرَجاتها.. ومِن آيات ذلك عِناق الرّمز والكِناية، في مصطلحات الحياة العامّة الفلسطينية، ومدلولات البيئة السياسية النّاظِمة..
   ولستُ هنا في معرض تتبّع اتّساع خريطة الرّمز في التاريخ السياسيِّ الفلسطينيّ المعاصِر، فذلك مبحث عريض؛ تحتَه أمثلة كثيرة، بعضُها مستجدّ، أنتجَه الإنسان الفلسطيني لعوارِضَ وإكراهاتٍ لم تَغِب عنها آلةُ القَمع الصهيونية؛ كما حصل في حالة البطّيخ، الذي انتقل من دلالته العامّة بوصفه فاكهة ترمز لفصل الصيف، إلى رمزيةٍ سياسية، على خلفية منعِ سلطات الاحتلال رفعَ العلم الفلسطيني في الضفّة الغربية وقطاع غزّة عند احتلالهما في نكبة 1967م، لِيُبدع شعبُ فلسـطين "استخداما تعبيريا" جديدا لتلك الفاكهة الصيفية؛ حيث عمد الفلسطينيون إلى تقطيع البطّيخ وجعلوه "بديلا تكتيكيا" عن رفع العلم الوطني الفلسطيني؛ لاحتوائه على الألوان الثلاثة: الأحمر والأسود والأبيض والأخضر، وقد ورث نُشطاء شبكات التواصُل الاجتماعي - حديثا - هذا التقليد؛ ففعَّلوا رمزية البطّيخ، واستخدموه بديلا عن علم فلسطين، لمراغَمة - وتضليل - خوارزميّات الفيسبوك المنحازة للاحتلال!
 وإنّما سقتُ رمزية البطّيخ إشارة إلى أنّ الرّمز - في الثقافة الفلسطينية - وَلود نابِض، فأمّا سائر الرموز الشائعة فإنّ دلالاتها قد ترسّخت، حتى صارت مسلَّمات متجاوَزة؛ إمّا لاطّراد الاستخدام  (كدلالة غصن الزيتون على السّلام)، أو لقُرب المأخذ، (كرمزيّة المفتاح للتعبير عن حقّ العودة).. 
   ..هذا عن الرّمز والدّلالة الرّمزية، فأمّا عناق الرّمز والكِناية فإنّه مبثوث في المصطلحات والتسميات التي غلبت على أشخاصٍ وأماكن؛ لقَرائن ربطٍ وخيوط علاقة بين الرمز والمرموز له، ومن ذلك تسمية مدينة جِنين "عشّ الدّبابير" رمزا لضراوة مقاومتها، وكِنايةً عن شدّة بأسِ رجالها.. وفي العبارة إحالة إلى ما يواجه قوات الاحتلال من أليم المواجهة، وباهظ الثمن خلال اقتحام المدينة - أو مخيَّمها - كما يتعرَّض آتي الدّبابير في مكانِها لأذى اللسع الأليم بجامع الوقوع في الورطة!..
ومن أمثلة الرّمز المنقلبِ عن الكناية - أيضا - "رجل الظّلّ"، وهو مصطلح يكنّى به - عادة - عن الشّخص الخفيّ؛ الغائبِ صورةً وملامحَ، الحاضرِ أثرا وتأثيرًا ، وقد دخل هذا المصطلح دائرة الرّمِز السّيّاسيّ - في تاريخ المقاومة الفلسطينية الحاضر - مع ظهور صورة مظلّلة للقياديّ العسكريّ القسّامي محمد الضّيف.. لتأخذ كلمة "الظّلّ" مكانها بين لفظة "الطيف" التراثية، التي تدلّ على تمثُّل الشخصِ الغائبِ، وارتسامِه مِن وراء الحضور، وبين مفردة "الشَّبَح" المعاصِرة - التي تُحيل إلى ذاتِ الدلالة وتأخذ نفسَ الإيحاء؛ ومِن هنا استُعيرَت "مطاردة الأشباح" للتعبير عن ملاحقة أبطال المقاومة، الذين قذفوا الرّعب في قلوب العدوّ، وأعجَزوا رصَدَه وأجهزةَ مخابَراته..
ومن مِشكاة مصطلح "رجل الظّلّ" خرج لقب "أمير الظّلّ"، الذي هو في الأصل عنوان رواية "سيرة حياة" كتبها الأسير الفلسطيني المقاوِم عبد الله غالب البرغوثي، ثمّ تحوّل الاسم من عنوان كتاب إلى لقب شهرة.. وللظّلّ دلالات كِنائيّة تدور حول سياقين: الدّور المؤثِّر مِن وراء الكواليس، كما في لقب (رجل "الظّلّ")، والحضور الشّكليّ الفارِغ، الذي ليس تحته تأثير ولا فاعليّة، كما في مصطلح (حكومة "الظّلّ")، الذي يشار به إلى حكومة وهميّة مجرّدة من الصلاحيّات العملية؛ فهي مجرّد ظلّ لا تأثير له.. ذلك موقعها من الرّمر ومحلُّها من الكناية..!
 وشتّان ما بين سلبية دلالة "الظّلّ" في وصف الحكومة الوهميّة، وإيجابية رمزيّتِه في لقبي القائدَين القسّاميين، وكما استُمِدّت رمزيّة البطّيخ من ألوان العلم الفلسطيني، اشتُقّ مِن لقب "أمير الظّلّ" اسم "وحدة الظِّلّ"، الذي أُطلق على الوحدة القسّامية التي برز اسمها على خلفية أسْر الجندي "الإسرائيليِّ" جلعاد شاليط، وفاء لِذكر البرغوثيّ، واستحضارا لبلائه الحميد وغَنائه الخالِد..!
اشريف  محمد يحيى