#مقالات : الأكاديميُّ الساجد...خواطر عن الأمين.

 #مقالات : الأكاديميُّ الساجد...خواطر عن الأمين.

بقلم : السالك ولد الشيخ


 

الفنانُ العابد أو الأكاديمي الساجد، البلبل الغريد، أو الشاعر الخنذيذ...أوصاف من بين أخرى تزدحم في شخصية محمد الأمين المصطفى.

_ ما رأينا نحن وربما لم ير هو مثلَ نفسه من جيله في الاستعداد لِهم الدعوة والتضحية في سبيلها، فتىً تتجاذبه الأنشطةُ الثقافية والدعوية وتتقاذف به منصاتها لا يكاد يخرج من صدر مجلس إلا ليرمى به في صدر آخر.

وربما خرج من زحمة ندوة في اللغة والأدب، ثم رمي به في منصة أمسية أو أصبوحة عن قضايا (ثقافية أو اجتماعية أو سياسية) فإذا به يعدل من جلسته، وكأنه خرج من ديماس فيأخذ مقعده بين الحضور، ويضع يده تحت خده سابحا في تأملاته المعهودة مصغيا إلى مخاطبه بما أوتي من مهارات تحليل الخطاب وتلخيصه.

يقف أمامنا في الجامعة فيقدم في الدقائق المعدودات محاضرات ضخمة حيث الأفكار المتقافزة والمصطلحات المتزاحمة والعناوين يحسد بعضها بعضا، وأقلام الطلاب تطارد كلماته لاهثة وراء دوي من السبح الطويل في الفكر والأدب واللغة والثقافة والملكات النادرة.


 

في بعده الفني: لم يكن الأمين جميل الصوت عذب الحنجرة غريدا منشدا، حاكيا، باكيا، شاكيا، شاديا، معجِبا فقط...بل كان جميل الصورة نَظيمَ الهندام كريم الشعر حالمَ النظرات، عارمَ الحضور، في حدقتيه صدق وروحانية، وفي قسمات وجهه حيوية وعنفوان.

في بعده الإيماني: كان شديد التوكل على الله والرضى بقضائه وقدره، حتى إن جلساءه يستمدون ذلك منه، فلا تكاد ترى وجهه وأنت في ضائقة إلا أحسست بخيط من الفرج يمتد شعاعه في حنايا الصدر المكلوم وينشق فجره في سدفات الحزن البهيم.


 

 هذا الجسم النحيل الهزيل الذي أضناه الكدح الطويل والصبر الجميل، وبَرَته معاناةُ آلام الأمة وجروحها النازفة دما...هذا الجسم الذي رمته الأدواء عن قوس، وتكسرت فيه نصال على نصال،وما يزال صاحبه طريرَ السن رطبَ الشباب، هذا الجسم لم ينكسر، ولم يهن، ولم يرح ولم يسترح في الدنيا، بل كانت تنوء به نفس مؤمن وثابة لا تعرف الكلل ولا الملل، نفس مؤمن يستمد قوته من إيمانه وحيويته من قرآنه، وأمله من ربه.

وإذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرادها الأجسامُ.

وكانت زوجُه وبعض إخوانه ربما طلبوا منه شفقة عليه ومراعاة لحاله أن يأخذ قسطا من الراحة، لكن هيهات أن يثنوه عن رسالة كان يسابق الدقائق من أجل أن تبلغ مداها، فوفَّى.

في بعده القرآني: حدثني ذات ليلةٍ أحد الخلان فقال "إذا أردت أن يبدع لك الأمين فأعطه موضوعا قرآنيا يتحدث عنه" قلت صدقت، فعجبا له حدثني بما أعرف.

وقف الأمين، أمام ناظريَّ هاتين ذات ليلة في جمع من الشباب في مدينة لعيون، والجو ساحر والمكان آسر حيث الهواء طلق والخيم منصوبة، والأمين حي بيننا على ظهر البسيطة، والكراسي مرصوصة، والزرابي مبثوثةٌ، ووسطُ الحضور تزينه رافعات عليها كتب أو مصاحف، وقف هذا الشاب الذي يذكرك هندامه بمصعب ابن عمير، ولسانه بأحمد ولد الحسن، وهصَر غصن سورة الواقعة، فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فقطف من ثماره العذاب، بأسلوب كأنه _كما قيل _ "تنزيلٌ من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم" حتى روِي الحضور، وسكرت، فكانت لحظات أنس لا تنسى.

عن كرمه: فحدث ولا حرج من النوادر الذين تزورهم فيكرمونك ويزورونك فيكرمونك، الكرم سيماه وطبعه، وعزة النفس شيمته وسجيته، قِلنا وبتنا واستيقظنا ونمنا وأكلنا وشربنا، وقرأنا وتحاورنا وتذاكرنا في بيته وكأننا في أحضان أبينا وأمنا.

في ذاكرته وحفظه: رزقه الله ذاكرة لاقطة للشوارد، قوية في حفظ الفرائد، كان ربما قرأ عليك من حافظته الخطاب الطويل بذات النبرة والأسلوب، لأحد الساسة الذين يعجب بخطابتهم، والقصائدُ الطوال يرويها ومثلها "طلع" فهو منشئ للأدب راوية، قارئ للأفكار حافظة.


 

جمُّ التواضعِ، عذبُ الحديث، سريع البديهة، بديع البيان، جريء الطرح، شجاع القرار، مستقل الفكر، مستجيب لأمرالدعاة من إخوانه، إذا وضعوه في الساقة كان في الساقة، وإن وضعوه في الميمنة مضى مظفرا منصورا.

بفقده فقدت الدعوة والدعاة طاقة جبارة وتجربة شابة فريدة في تكوينها، وعطائها، وتفانيها.

لقد انكسر قلم بليغ من أقلام الدعوة، وسكت طائر غريد، وذوى مصباح منير.

رحمات ربي على روحه الطاهرة وأرواح رفاقه الأخيار الأبرار.


 

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

#قناة_المرابطون